.. عندما صمت أوباما

TT

خلال المعركة الانتخابية الرئاسية الأميركية، احتد الجدل بين باراك أوباما وخصمه وهيلاري كلينتون حول رنة الساعة الثالثة صباحاً، كناية عمن هو الأقدر على مواجهة الأزمات العالمية.

ما توقعه الإعلان الانتخابي حدث بالفعل، فهاتف الأزمات الأحمر في البيت الأبيض، رن حقيقة في الساعة الثالثة صباحاً، إلا أن الذي رفع السماعة لم يكن أوباما ولا وزيرة خارجيته القادمة، لقد رفع القاطن الحالي في البيت الأبيض جورج دبليو بوش السماعة، وأجاب على المكالمة، والنتيجة ما نشاهده اليوم في غزة وما حولها.

المكالمة لم تأت مبكرة عن موعدها ولم تضل طريقها عندما تلقاها جورج بوش القابع الحالي في البيت الأبيض، فقد كان الأمر مقصوداً. المكالمة كانت ثلاثية الأطراف التي رنت في واشنطن جاءت من طهران المتعجرفة عبر غزة، ومن حماس عبر حكومتها المقالة، ومن تل أبيب عبر توليفتها السياسية والعسكرية المتناحرة في نفس الوقت.

جميعها، حكومات طهران وتل أبيب والحكومة الفلسطينية المقالة، قرأت الرد الأميركي بناء على المشهد الإقليمي والعالمي، وبناء على تصورها لواقعها المحلي، بما يشمله ذلك من انتخابات وصراعات وضغوط، والواقع الإقليمي والدولي من حولها عشية تسلم ادارة جديدة مقاليد القيادة في واشنطن، وحاولت عبره استباق التحول الذي ستشهده القيادة الأميركية في العشرين من الشهر الحالي.

المتصلون كانوا أشد الناس حرصاً على أن يكون جورج بوش على الخط وليس خليفته القادم، فردود فعله معروفة مسبقاً مثل كتاب مفتوح. فهو كما هو معروف عنه لا يمانع الحروب، بل قام بشن بعضها.

الرفاق والاعداء في غزة وتل ابيب وطهران ومعهم جورج بوش، كلهم يرغبون في تغيير ديناميكية المنطقة استباقاً لوصول سيد البيت الأبيض الجديد، ومن أجل فرض واقع جديد بين يدي رئاسته يفوّت الفرصة امامه للامساك بزمام المبادرة، أو تحديد اتجاه الانطلاقة عبر «حرب تحريك». فتل أبيب على الرغم من ثقتها بباراك اوباما، إلا أنها تفضل التعامل مع جورج بوش إلى آخر دقيقة من رئاسته، فهو لا يزال الأفضل لديها. ولا ننسى الصراعات بين الاحزاب الاسرائيلية في الانتخابات المقبلة في فبراير. أما طهران فهي تسعى لامتلاك اكبر عدد ممكن من الأوراق في المنطقة بين يدي تسلم الرئيس الجديد تمهيداً لمفاوضات ومناورات طويلة على طريقة البازار الفارسية المعروفة مع الإدارة الاميركية الجديدة، حول الملف النووي ودورها في المنطقة وموقعها الإقليمي. أما حماس فهي الأخرى تسعى لانهاء حالة الحصار والضيق الذي تعيشه والتصدي لوقف نزف شعبيتها المتقهقرة، واعادة خلط الاوراق مع انتهاء فترة رئاسة محمود عباس. وهي، وفي سبيل السعي لمصالحها، ارتهنت نفسها للمشروع الايراني الإقليمي مباشرة وعبر بوابة دمشق، وعنتريات حزب الله، من باب ما تراه تبادل المصالح المستحيل في غياب عاملي الاستقلالية والندية الأساسيين. أوباما وهو يدخل اليوم حلبة عالم الواقع، يعيش المعضلة التي وصفتها مارثا جوينت كومار، الخبيرة السياسية في جامعة توسون، والتي هي دليل على طبيعة الأسابيع التي تسبق انتقال السلطة نهائياً: «يمكنك التحكم فيما تقول أثناء الحملة الانتخابية. أما حين تبدأ بممارسة الحكم، فتضطر إلى الاستجابة لما يدور في العالم». فترة الإجازة على وشك الانتهاء ومواجهة الواقع والاستجابة لما يحدث فيه أمر لا مفر منه. فهو لا يمكنه الهروب أو الاختباء خلف الأزمة الاقتصادية الخانقة. فالعالم من حوله مليء بالمخاطر والقضايا التي تتطلب مواقف أميركية قيادية، حتى وإن لم ترغب واشنطن في ذلك. فليس ثمة من خيار. لقد اختار جورج بوش طوال فترة رئاسته الانحياز العاطفي والسياسي الكامل نحو إسرائيل، دونما ترو أو تفكير، كما اضعف الفلسطينيين حينما اختصرهم في شخص ياسر عرفات، الذي قاطعه حتى الموت. الرئيس الجديد لا يمكنه انتهاج نفس الأسلوب أو الانحياز الكامل على طريقة سلفه العقيمة. فباراك أوباما سيرث كل مشاكل جورج بوش ومشاكل العالم التي خلقها أو ساهم في خلقها، وهو إذ يحاول اعادة الاعتبار لأميركا في العالم وتعزيز دورها القيادي لا يمكنه استدانة سياسات سلفه أو الاتكاء عليها، حتى ولو ابتعد عن الاساليب التي تمت بها ممارسة تلك السياسات ثم توقع نتائج مختلفة. فالسذاجة الغبية هي تكرار الخطأ نفسه مرة بعد مرة وإن كان بأساليب مختلفة وتوقع نتائج مختلفة.

الحقيقة أن أوباما لن تكون بيده عصى سحرية، ولا يملك حيلا ولا تعاويذ أو همهمات لحل مشاكل العالم، وعلى رأسها مشكلة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ولن تجديه خطب حملته الانتخابية الرائعة ولا نواياه الطيبة ولا ابتسامته الخلابة. فالعالم اليوم يتطلع إلى عودة جادة وحقيقية للقيادة الأميركية المتوازنة الرشيدة والواقعية في نفس الوقت، والقيادة الحقة من أهم خصائصها الاستقلالية والقدرة على ممارسة الإنصاف واتخاذ اسلوب الاعتدال منهجاً. والولايات المتحدة أحوج ما تكون اليوم إلى هذه الخصائص، فالعالم سيكون متربصاً للتحقق من تحقق هذه الخصائص لمن يسعى لقيادة العالم، وفي غياب ذلك سيرفض العالم أوباما بعد شهر عسل قصير كما رفض ادارة جورج بوش من قبل.

ولكن ومع هذا كله ورغم كل المعاناة والنزف الذي نشاهده اليوم، فإن الظروف الجديدة قد تخلق فرصة حقيقية، أقرب إلى الأخيرة، أمام الولايات المتحدة لتكون الشريك العادل. فأوباما وفريقه القيادي سيكونان أمام تحد حقيقي خلال الأسابيع القادمة، يمكنهما عبر حسن التعامل معه وادارته، أن يكسبا العالم العربي والاسلامي ويحسّنا من صورة أمريكا المهترئة في نفس الوقت. من هنا يمكن القول إنه لا يمكن الاستمرار في صمت أوباما، كما لا يمكن للسياسات والاساليب القديمة والتحيزات العمياء أن تأتي بأية نتائج ايجابية.

رصيد اوباما الإيجابي وسمعته الجيدة، ستكونان على المحك في يوم 20 يناير 2009 اليوم الذي سينتهي فيه الصمت، ويبدأ فيه العمل. ليس المطلوب من الإدارة الجديدة أو تتخلى عن حليفتها الاستراتيجية إسرائيل، ولكن المطلوب منها ألا تتخلى عن المصالح الأميركية والعالمية العليا، وهي تتعامل مع الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي والصراع العربي الإسرائيلي.

الإدارة الجديدة يجب أن تكون حازمة في تعاملها مع التلاعب الإسرائيلي المستمر بعملية السلام، وأن تنهي اللعبة الاسرائيلية الحريصة على جرجرة جزئية «العملية» والتركيز عليها فقط في مفاوضات عملية السلام، كما قال احدهم. ويمكن استدعاء موقف جيمس بيكر، وزير الخارجية الأسبق يوم ضرب بقبضته المنضدة وقال لا لإسرائيل.

كما يجب في الوقت نفسه أن ينتهي الانقسام والتشرذم الفلسطيني، الذي لا يمكن أن تتقدم القضية في استمراره. ففي غياب الشريك الفلسطيني الجاد والمتوحد الواضح الرؤية والأجندة، لن يكون هناك حل ولا سلام.

* كاتب أميركي من أصل ليبي