الاختيار العربي الصعب؟!

TT

حينما تم الاتفاق على عقد القمة الاقتصادية العربية في الكويت، لم يكن أحد يعلم أنه عند انعقادها سوف تكون الأحوال على ما هي عليه الآن. كان المزاج السياسي العربي أيامها آخذا في التفاؤل حينما انعقدت القمة العربية في الرياض عام 2007، حتى أن الدول العربية باتت مستعدة للحديث في الأمور الاقتصادية التي أهملتها منذ انعقاد قمة سابقة لها قبل ربع قرن أو أكثر. وكانت أسباب التفاؤل راجعة، ليس فقط إلى ارتفاع أسعار النفط وتراكم رؤوس الأموال لدى عدد من الدول العربية، وإنما لأن القطاع الخاص العربي كان قد دخل مرحلة النضج، ولأن عددا من الدول العربية مرت بمحاولات إصلاح جادة نجم عنها معدلات نمو عالية، وبشكل من الأشكال كانت حالة الصراع العربي - الإسرائيلي آخذة في الهدوء بعد عاصفة عام 2006، واستقر الوضع على حالة حزب الله في لبنان ودخلت بيروت والجنوب اللبناني مرة أخرى في عملية إعادة البناء. وبالتأكيد لم تكن كل الأمور سعيدة على الجبهة العربية، أو الإقليمية، ولكن كان فيها ما يكفي لكي تفعل الدول العربية ما فعلته أقاليم أخرى في العالم من محاولات الاتجاه نحو التعاون الاقتصادي؛ ولأول مرة منذ وقت طويل ظهر في العالم العرب نجوم للاقتصاد في شكل شركات عملاقة، أحرجت واحدة منها الولايات المتحدة عندما فازت بعقد لإدارة عدد من موانيها. وبشكل من الأشكال بدا العالم العربي مستعدا لخوض المنافسة الاقتصادية العالمية، وأنه في النهاية يستطيع التعامل بحساسية مع عملية «العولمة» التي لم تقطعها الحروب والأزمات السياسية.

وباختصار كانت السوق السياسية العربية على استعداد لقبول اختيار آخر لإدارة أحوال العرب يقوم على الإصلاح والتنمية؛ وصحيح أن الحديث عن «الديمقراطية» كان يصيب كثيرين بأمراض حساسية مختلفة، إلا أن السوق الاقتصادية العربية كانت على استعداد أكبر لنمو الاقتصاد الخاص، وتقبل طاقة أكبر من المبادرة الفردية، وبشكل ما كان باستطاعة المواطن أن يحصل من السوق على مجال أكبر للمشاركة والكسب وتحقيق الذات. وكما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن الحركة الاقتصادية في الدول العربية فتحت مجالات واسعة لإصلاح التعليم والخدمات والبنية الأساسية، بحيث بات المواطن أكثر قدرة على الحركة والانتقال، وفوق كل ذلك الاتصال. وبقدر ما كان ذلك كله جزءا من المجال الاقتصادي للتوظيف والتشغيل والاستثمار، فإنه كان يعطي العربي الأفضل تعليما وصحة ومعرفة بالعالم ما يكفي لكي يستثمر الانفجار والثورة في مجال الإعلام، لكي يخلق مجاله السياسي والاجتماعي الخاص. وربما كان كل ذلك لا يعد «ديمقراطية» بالمعنى المعروف، ولكنه كان يعطي مجالات للمشاركة والتأثير لم تكن متاحة من قبل. وربما كانت الصورة مختلفة، ولكن العالم العربي، أو جزء معتبر منه على الأقل، قد وضع أقدامه على أول طريق التقدم والتنمية.

كان كل ذلك باعثا على التفاؤل، حتى أنه بات ممكنا اقتراح عقد قمة اقتصادية خاصة، تقوم على القطاع الخاص والمشروعات المشتركة الناجحة التي تفجر طاقات الثروة في منطقة فيها 350 مليونا من المستهلكين، وتعلمت بأشكال مختلفة كيف تصنع الثروة. وبالتأكيد كان هناك ما يقلق في عدد من الدول العربية «الفاشلة» والتي تفككت تماما، أو أنها في طريقها إلى التفكك، وكانت الأحوال على جبهة القضية «المركزية» في فلسطين مزعجة بالانقسام والتشرذم، ولكنه كان هناك أمل تجسد بعد ذلك في إعلان مكة، وحتى كان هناك أمل في العراق بعد أن بدأت الأحوال في التغير النسبي بعد أن ثار السنة على الإرهاب، وتكونت لدى أطراف مختلفة رغبة في البحث عن وسيلة للخروج من أزمة محكمة. وعندما جاء عام 2008 بدا للعالم العربي، وكأن طاقات ليلة القدر قد انفتحت على آخرها عندما وصل سعر برميل النفط إلى 147 دولارا، وليال تالية بات التصور عن القمة الاقتصادية نوعا من عملية إطلاق طاقات أكثر من تريليون دولار، تفتح أسواقا وتخلق عمالة، وتوفر اعتمادا متبادلا بين الدول العربية في أكثر من 450 مشروعا كبيرا يربط عالم العرب بالتواصل والإنتاج والاستهلاك و«البيزنس» المشترك على مستوى المنطقة وحتى على مستوى العالم.

ولكن الليلة لم تكن تشبه البارحة على الإطلاق، ولم يكن يوم انعقاد القمة الاقتصادية مشابها ليوم الاتفاق عليها، ولم يكن ذلك راجعا فقط إلى الانهيار الشديد في أسعار النفط الذي أيقظ كثيرا من العرب من أحلام كثيرة، ولا كان راجعا فقط للأزمة الاقتصادية العالمية المستحكمة التي لفت العالم بأسره وهبطت على الشواطئ العربية كلها دون استئذان، وإنما بات راجعا إلى عودة خيار الصراع والحرب والنزاع. وبعد أن كان أبطال المرحلة هم الوليد بن طلال ونجيب ساويرس وجماعات الخرافي والراجحي وإعمار، ورموزها أبراج دبي ومدينة شرم الشيخ، فإن الوقت دنا إلى خالد مشعل وإسماعيل هنية والشيخ حسن نصر الله وطلعة أحمدي نجاد، ومن ورائهم جميعا تقف غزة محترقة ومهدمة وسط لوعة النساء وصراخ الأطفال جرحى وضجيج صمتهم ساعة الموت.

وهكذا جاء الاختيار القديم ملحا وصارخا كما اعتاد العالم العربي منذ وقت طويل، وبعد أن كثر الحديث عن «الاعتدال» و«العقل» و«البرجماتية» و«التنمية» و«التقدم» والبحث في سبل الارتفاع في تقارير التنمية البشرية، وباختصار البحث في سبل أفضل للحياة في عالم معاصر؛ ذهب كل ذلك وعاد الحديث عن الموت والاستشهاد والحرب وقرارات مجلس الأمن وعقد الجمعية العامة والمطالبة بوقف إطلاق النار ومظاهرات التضحية والفداء، وفوق ذلك كله عادت قناة الجزيرة لكي تقوم بما كانت تقوم به إذاعة «صوت العرب» في سالف الأيام من تعبئة لحناجر عربية مبدعة في بث الفرقة وإثارة الفتن وتفجير الأوضاع والتأكيد على ارتهان الأمة العربية كلها لقضايا اتفق أصحابها على عدم حلها. وعندما جاء وقت القمة الاقتصادية العربية كان الحال قد أصبح حالا آخر، وتغيرت اختيارات الأمة حتى قبل أن تعطي فرصة حقيقية لاختيار الحياة، وفرضت غزة نفسها على القمة بطريقة مثيرة ربما لكي تذكر أن أحوال العرب لم تتغير كثيرا، أو بما يكفي لكي يتصوروا أن هناك إمكانية لكي يلحقوا بالدنيا التي يعيشون فيها.

وربما لم يكن هناك ما يفضح حالة القمة الاقتصادية العربية قدر ما جرى من أحداث عربية باتت كلاسيكية، وبدون تقدير أو حسابات اندفعت قطر نحو الدعوة لقمة عربية وبطريقة درامية كما لو كان انعقاد القمة العربية قبل يومين من القمة الاقتصادية هو الذي سوف ينقذ غزة. وكان ذلك راجعا في بعض منه إلى أن قطر اكتشفت أن ما تستطيع عمله في المفاوضات والحركة السياسية الفعلية قليل للغاية، كما كان راجعا إلى رغبة موجعة للبقاء في مقدمة مسرح لا يسمح إلا بوجود أصحاب الأثقال الكبيرة، ومن الجائز أن المسألة بأسرها هو تطبيق لتقليد عربي سائد وهو الانقسام والتشرذم في أوقات الأزمات. ولعل ذلك كان هو الذي أظهر خيار العالم العربي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والعيش السياسي منها بالمزايدة والمقامرة، لأن الخيار الآخر صعب وقاس ويحتاج عقولا وصناعا وتجارا ومبدعين، ولكن الخيار الجديد لم يكن يحتاج أكثر من ميكروفون وكاميرا وحنجرة قوية، وكان ذلك كله متوافرا بكثرة في أمة عربية ممتدة من المحيط إلى الخليج.

ويوم نشر هذا المقال سوف تكون القمة العربية قد انعقدت وانفضت، ومن الطبيعي أنه سوف يصدر عنها قرارات كثيرة اقتصادية وسياسية، ولكن ما كانت تمثله القمة من معني واختيار ومسار ضاع وسط الدخان والنار والدم. وربما كان ذلك هو قدرنا، أو ربما كان هذا هو ما اعتدنا عليه، وما حدث هو أن الأمور عادت إلى مساراتها الطبيعية، حيث تقود الأمة مجموعة من الحناجر القوية التي يطلق طاقاتها إعلام ملون وحديث، كل ذلك جائز؛ ولكن مع ذلك لا بد أن هناك طريقا آخر، واختيارا آخر وإلا فقد حكم على هذه الأمة بالموت إلى الأبد!