مهدي الحكيم.. عِمامة من طراز آخر!

TT

استجاب السيد محمد مهدي الحكيم لدعوة الشيخ حسن الترابي لحضور مؤتمر «الجبهة الوطنية الإسلامية» بالخرطوم، وهناك كان موعده (17 كانون الثاني/يناير 1988) مع رصاصات مجهول، أردته قتيلا، وقد تحدث الكثيرون أنه اُستدرج لهذه الغاية. ولم تسع حكومة السودان، ولا الشيخ الترابي، إلى كشف القاتل، مثلما فعلت عاصمة اليمن الديمقراطية وفضحت قتلة ضيفها أستاذ الفلسفة توفيق رشدي (1979)، ودولة البعث كافة، على الرغم من فقر عدن وحاجتها لمعونة بغداد الغنية!

كان مركز «أهل البيت» في لندن، بإشراف السيد محمد بحر العلوم، يحيي مناسبة الاغتيال، ولعله واظب على هذا التقليد بعد عودته النهائية إلى النجف. ليس لدور المُغتال في تأسيس المركز حسب، إنما لدوره المبكر في المعارضة، التي لا أراها تذكره مثل ذكرها لبقية شهدائها من أصحاب العمائم، ومحاولاته في إقامة دولة مدنية، تحفظ حقوق الشيعة والسُنَّة وبقية الجماعات العراقية. وترى مقولة دولة مدنية متسعة الآفاق، وأن تدعيها عِمامة، في ذلك الزمن، ليس بالحدث الهين، بل تنم عن مسؤولية وطنية وانفتاح لم نعتد فعله من العديد من أهل العمائم، بيضها وسودها، وهم في السلطة حاليا.

جاء في المذكرات المبتسرة، التي تركها شفاهية، ثم صدرت بعد اغتياله: «عندنا في الواقع عمل سياسي دؤوب.. همنا حينذاك أن يأتي حكم مدني نتخلص به من الحكم العسكري، وهذه خطوة كنا نعتقدها ضرورية، وأن الحكم المدني يعطي شيئا من الحريات للناس..». وبهذا الصدد ينقل عن والده آية الله محسن الحكيم (ت 1970) قوله لرئيس الوزراء الشيعي محمد فاضل الجمالي (ت 1997): «إن الحكومة التي تتشكل من الشيعة، من الشرطي حتى الملك، ولكنها تميز بين الناس على أساس الشيعة والسُنَّة فإنها حكومة طائفية، وإنني أرفضها، ولو أن الحكم كله سُنَّي من الشرطي حتى الملك، ولا يفرق بين الناس فإنني أعتبره حكما طبيعيا.. إني أرى الناس الآن يصنفون على أساس مذهبي، وليس على أساس الكفاءات». وهو ما يعانيه العراق اليوم، ومن الأماني أن أصحاب الأمر يقلدون فتوى الميت فهو محسن الحكيم!

حصل اللقاء عند زيارة الجمالي إلى النجف، وكان التقليد أن يتم اللقاء بين المرجع والمسؤول الحكومي، مهما كانت منزلته، بالحضرة العلوية، جرى ذلك منذ (1870) عندما زار ناصر دين الشاه العتبات المقدسة ولقاؤه بمرجع زمانه السيد محمد حسن الشيرازي (ت 1897) بأروقة الحضرة المذكورة (مَغنية، مع علماء النجف). إلا أنه في الأيام الأخيرة تُرك العمل بذلك التقليد وأخذ المسؤولون يقصدون المرجع إلى داره!

كان السيد الحكيم وكيلا لوالده ببغداد (1964-1969)، وهو حلقة اتصاله بأرباب الدولة، وبعد تفاقم الخلاف، بعد انقلاب 17 تموز، أُجبر، أمين عاصمة بغداد السابق، مدحت الحاج سري، على الإدلاء بشهادته من على شاشة التلفزيون، بأنه يعمل في شبكة تجسس مع الحكيم الابن، فاضطر على الهجرة سرا. لذا يمكن عد المهدي من أوائل المعارضين في الخارج. أسس الأفواج الإسلامية، ومنظمة حقوق الإنسان، ولجنة رعاية المهجرين العراقيين، إلى جانب مركز أهل البيت، وكان محلا لمعارضة دولة البعث.

يجمع العديد من معارف مهدي الحكيم، من مختلف المشارب، على عقله المتنور، وحزمه على أمرين بالغي الأهمية بالنسبة للعراق: إقامة دولة مدنية، ومحاربة الفقر، وعلى خلاف إيران ليس له شأن بولاية الفقيه. ولا يستغرب تعامله السياسي المعارض مع شخصيات من أهل السُنَّة أومن خارج النطاق الديني. وعلى الرغم من موقفه السابق من ثورة 14 تموز وما جرى من خلاف بين المرجعية ورجالات الثورة، إلا أنه لا ينسى لعبد الكريم قاسم عراقيته. قال: «هو ليس بشيعي، وليس بسُنَّي، وليس بمسلم، وليس بيهودي، فهو عراقي، وهذا الأمر جعله لا يملك تحيزا لجهة شيعية أو سُنَّية»(مذكرات..). وبالفعل كان عندما يصلي يقفل الباب دونه، ولما سُئل قال: «لا أريد أن يراني أحد على أي مذهب صلاتي، لأني رئيس وزراء العراق»!

أجد خسارة العراق كبيرة بعِمامة مثل عِمامة مهدي الحكيم، ذلك إذا علمنا بقولة أحد الرؤساء الحاليين، ودأبه السير خلف صاحب عِمامة: إن «سواد الناس يريدون عِمامة يتبعونها»! وهنا أنقل ما حدث لي مع السيد هاني فحص: كنت أقود والدتي، التي التقيتها بعد ثلاثين حولا، فصادفنا السيد فحص، معتمرا الفيصلية بدلا من عمامته السوداء، فسلم على والدتي مع تقديم الإشادة بابنها، وعندها قلت له لا ملاطفا بل جادا: «سيد لو كنت تعتمر العِمامة لكان لكلماتك وقعا عليها»! وهكذا بقية المُقلدين من السواد في أمور الدين والدنيا..!

[email protected]