المصارع

TT

من أغرب الناس الذين مروا عليّ في حياتي، رجل كنت زميلا لأبنائه في المدرسة، وهو رجل ورث عن والده مالا كثيرا، وعندما كانت الغالبية العظمى من الناس فقراء حفاة عراة يرعون الشياه والبعارين، ويسكنون بيوت الطين والصفيح، كان منزله مشعشعا بالكهرباء (وتربض) السيارات من حوله.

كان من المفروض، وهو على هذه الحال المترفة، أن يركن للدعة، غير أنه بدلا من ذلك كان يستمتع بكل ما هو مزعج وخطير، ولم اذهب لزيارة ابنائه يوما إلا وتناهى لي وأنا في الشارع وقبل ان ادخل من الباب، أقول: إلا وتناهت لي أصوات الصخب والمجادلات والتحديات، وما أكثر ما ترددت بالدخول ونكصت على اعقابي خوفا من أوامره التي لا ترد.

فهو رجل يؤمن بالعنف الجسدي إلى أبعد الحدود، وقد حوّل مجلسه الأرضي إلى حلبة مصارعة حقيقية، فهوايته التي يبرع فيها ولا يمل منها هي (المطارحة) ـ وهي نوع من المصارعة البدائية من دون قواعد ـ فهو دائم التحدي لضيوفه بالمطارحة، وترى بعض الرجال المحترمين الوقورين، وقد تحولوا في مجلسه إلى ضحايا يشقلبهم ويكرفسهم ويجندلهم الواحد تلو الآخر دون أية مجاملة أو شفقة.

ويفرض علينا نحن الصبيان الصغار أن نتطارح أمامه، ويقدم الجوائز بضعة ريالات للفائزين منا، ولا أذكر أنني قد فزت ولا بريال واحد، بل إنني أخرج دائما إما بخلع في كتفي أو تمزيق ثوبي، ولا ينوبني بعد تلك (المرمطة) غير عقابي من أهلي.

وهو عنيف ومتهور في كل شيء حتى في قيادته للسيارات، إلى درجة أنه يجن جنونه إذا تعدته أو سبقته أي سيارة، فيأخذ بمطاردتها و(يسقط) عليها، ولا يتورع بصدمها إذا تطلب الأمر.

والى جانب هذه الهواية (العضليّة) كان يحب (العرضة) والرقص بالسيف والضرب على الطبلة، ولا تمر مناسبة عيد أو زواج لأحد مستخدميه إلا وحول (البرحة) التي أمام بيته إلى حلبة رقص يكون هو فارسها المغوار، كما أن لديه اصطبلا ممتلئا بالخيول، وهو الوحيد الذي (يعسف) الخيول المبتدئة التي كثيرا ما أسقطته على الأرض، ولهذا كثيرا ما نشاهد وجهه وقد امتلأ بالجروح والضمادات، وكان أبناؤه رغم محبتهم وإعجابهم به، كثيري الخجل منه ومن صياحه وصخبه ولجلجته بصوته الجهوري، واستخدامه لأقذع مفردات اللغة مع من يعارضه، والويل كل الويل لأي خادم من خدمه لو أنه أخطأ، فهو ساعتها يحمله على كتفه للأعلى ثم يهبط به على الأرض ويشبعه صفعا وركلا.. لم أشاهده يوما يقرأ كتابا، أو يتفرج على فيلم سينمائي، أو يستمع إلى أغنية.

ومن النادر أن يمر يوم عليه بسلام، وإذا لم يجد إنسانا يطارحه، فهو يأخذ أبناءه وحاشيته إلى خارج المدينة ويتسابق معهم قاطعا ما لا يقل عن عشرة كيلومترات.

غير أنه في إحدى المرات وخلال تحدياته لأحد ضيوفه بالمطارحة، استطاع الضيف بعد معركة حامية الوطيس أن يتغلب عليه، ويضرب برأسه على الحائط ثم يهوي به على الأرض وتتحطم من جراء ذلك أربع ثنايا من أسنانه الأمامية، والغريب أنه لم يركب له أسنانا بدلا منها متعللا بأن شفته العليا الكبيرة مع شنباته الكثيفة كفيلة بإخفائها.

ومرض في آخر أيامه بالفشل الكلوي، وقال الأطباء إن سبب ذلك هو من جراء ضربة على كلوته سددت له في إحدى جولات المصارعة التي كان يخوضها، وهكذا مات بالطريقة التي يشتهيها.

رحمه الله، وبدل بمصارعته الدنيوية مصارعة الحور العين في جنات النعيم إن شاء الله[email protected]