صراع سياسي في لبنان أسوأ من الحرب

TT

ناقش البرلمان اللبناني هذا الاسبوع مجموعة من «القضايا» الشاغلة البلد: زراعة حشيشة الكيف في البقاع، وفواتير الكهرباء التي لا يسددها النافذون والمتلطون بهم، وفواتير الهاتف والتنصت على خصوصيات الناس وحميمياتهم، واملاء المراكز الشاغرة في الجامعة اللبنانية وبينها 13 عمادة متروكة خالية منذ امد طويل كأنما الجامعة مرآب في استطاعته الانتظار، او كأنها تلفزيون يطفأ ثلاثة اشهر كاملة في انتظار النهضة الفنية الكبرى التي وعد بها السيد وزير الاعلام.

وبمجرد إثارة مثل هذه «القضايا» في الصحف، وليس في البرلمان، يتساءل المرء اين اصبح «بلد الاشعاع والنور» الذي لا تطل كهرباؤه إلا حيية في صيف شديد الحرارة، والذي يقبل، او يرتضي، ان يظل مقعد واحد في جامعته الوطنية خاليا لاكثر من اسبوع، فاذا بثلاث عشرة كلية مشرعة الابواب والنوافذ، والمسؤولون يتصرفون كأن هذا الفراغ واقع في بلد آخر من اعمال كازاخستان او كولومبيا.

ما هو سبب هذا التفسخ وهذا الصدأ النفسي الذي بدأ يخفي بطبقة كثيفة، معالم لبنان القديم، الذي كانت الجامعة فيه هي عنوانه وكانت المعاهد مبرر وجوده والاتقان علة كيانه الصغير؟ ليس هناك سبب واحد، ولكن هناك حالة شبه وحيدة: الاكفاء مصابون باليأس والمتسلطون مصابون بالنهم. وعندما لا يعود مكان للكفاءة في بلد ما، تبدأ السفينة بالغرق. وهي في الحقيقة تغرق منذ وقت، لكن الانهيار اخذ يتسارع في الآونة الاخيرة والدمل الزرقاء تظهر بوضوح في وجه البلد المعتل بسياسييه الذين يعتقدون انهم سوف يكونون في منأى عن آثار الانهيار او عن ساعة الحساب.

انها حالة عامة وليست سببا واحدا. ولا يجربن احد ان يقول انها الحرب. كفى نغمة الحرب وكذبة الحرب. فطبيعة السلام السياسي القائم في البلد اسوأ واعمق وادهى بكثير من وقائع الحرب. وطابع الصراع البارد القائم اليوم أكثر خبثا من الصراع المسلح. والاثمان والعواقب المترتبة على صراعات اليوم، تتخطى الشكل والمظاهر الى جوهر البلد وقيمه واخلاقياته وكيانه. فعندما تصبح قضية الكهرباء والحشيشة وكراسي الجامعة الوطنية مجرد «مواضيع» للنقاش مثل الصداع والامساك، تكون السفينة قد قطعت عمقا بعيدا في اليَّم فيما صراخ المتصارخين يغطي ـ كالعادة ـ على اصوات طلب النجدة. تتساوى ارقام ومعالم الازمة في لبنان، من حيث الشكل والابعاد، مع ارقام الأزمة الوجودية في دول اسيا الوسطى: النمو متوقف في كل القطاعات. البطالة طاغية في كل القطاعات. الدين العام هو الاضخم في تاريخ الدولة. والاسوأ من كل ذلك هو نسبة الهجرة التي تفرغ البلد من الشباب والكفاءة على نحو محزن ومفزع. اما الاكثر ايلاما، فهو ردة الفعل على هذه الهجرات: مجرد حديث آخر في نهاية السهرة او تصريح مسحوب من الدرج ومحفوظ الى حين تدعو الحاجة يعلن فيه انه «اذا تجرأ رجال الدرك على المجيء فسوف اكسر ارجلهم». وقلت في نفسي وانا اسمع هذا االكلام ان الدولة ستتحرك خلال دقائق لاستجواب هذا الرجل والمثال الذي يعطيه، لكن الدولة لم تكن تحضر نشرة الاخبار في ذلك اليوم.

خطاب سياسي قبيح يواجه بسكون مرعب. رجل يهدد الدولة، على التلفزيون، برموزها ويتحداها ان ترسل رجالها الى مزرعته السياسية في كسروان حيث يرتفع «الكازينو» عاليا كرمز لأسوأ انواع الفساد والمحسوبية والخوات والسرقات المعلنة، والدولة لا ترى ولا تسمع. لماذا؟ لان صمتها شريك في هذا التهاوي. لانها تخاف من مسؤوليتها. ولانها غير قادرة على مواجهة الكارتيل السياسي المتشعب والكثير الفروع والكثير المصالح. لان الدولة تعلن ان هناك من يسرق منها كل عام 250 مليون دولار عبر «وزارات» هاتف سرية، لكنها لا تسمي احدا، كأنما السارقون هم الشبح «كاسبر» او «دونالد داك». ثم بعد قليل يشير نائب رئيس الوزراء عصام فارس الى احد النواب ويتهمه «بالمخابرات الدولية» والكسارات (غير الشرعية) وقوافل الشاحنات التي تنقل حصى تلك الكسارات على طرقات لبنان، وهي الطرقات الوحيدة في العالم (بما في ذلك اسيا الوسطى والهند) التي تسمح بمرور الشاحنات في ساعات معينة من النهار. كل نهار. كل النهار.

هل هذه هي حقا الجامعة اللبنانية التي عرفها لبنان؟ هل حقا يمكن ان تظل 13 كلية بلا عميد كل هذا الوقت، لان كل سياسي يريد عميدا لنفسه وليس لان الكلية نفسها في حاجة الى مواصفات معينة للعمداء، هل هذا هو لبنان؟ الذي لم يخل مرة واحدة من المحسوبية، لكنه ايضا على الدوام ترك مكانا للحد الادنى من الاشياء والحد الادنى من المقاييس والحد الادنى من الحدود الدنيا في كل شيء، فاذا شيئان اليوم بلا قعر: السفينة الغارقة والحد الادنى.

كان الرئيس سليمان فرنجيه يتصرف بمحسوبية عندما عين الدكتور بطرس ديب رئيسا للجامعة اللبنانية. لكن بطرس ديب كان اكاديميا كبيرا من كبار الاساتذة في لبنان. وكان سيرة طويلة متواصلة من الابحاث والمؤلفات والفكر واللغات. وكان بطرس ديب عندما يحاضر في جامعات باريس يأتي الى سماعه بتواضع عمداؤها واساتذتها قبل طلابها. طبعا كانت السياسة تتدخل في كل شيء، لكن الكفاءة ظلت شرطا اساسيا، خصوصا حيث هي واجب لا استحسان. وكان ـ يمكن ان تناقش فؤاد افرام البستاني بقناعاته السياسية المضحكة، لكن لم يكن ممكنا ان تناقشه في اعماله البحتية في اللغة والادب العربي او في الموسوعة العربية التي مات قبل ان ينجز نصفها.

ان احد اسباب الانهيار والتردي في لبنان، ليس الحرب، التي علمت الميليشيات ان الوطن زرع لها، بل هو انهيار مستوى الأستذة والاكاديميا. فعندما تغيب المستويات والمقاييس ومتعة الابداع والانجاز والمنافسة، يتساوى كل شيء بأي شيء، ولا يعود هناك فارق في الدرجات ومستويات البلوغ، ما دام الفاشل هو الذي سيصل في اي حال. ولبنان اليوم دولة تناقش دفع فواتير الكهرباء وزراعة الحشيشة وشروط البنك الدولي. وهي للمناسبة تشبه الشروط التي وضعها على أكثر دول افريقيا تخلفا. وبدل ان نستحي مما وصلنا اليه. نهاجم البنك الدولي، تلك المؤسسة الامبريالية التي تقول لنا اننا لا نستطيع ان نصرف عشرين ضعفا مما نجمع.