عصافير المتروبول

TT

رحم الله ريمون إده. وكان الكوميدي الاميركي «ديك غريغوري» يقول ان الاميركيين السود لو مكنهم الدستور لانتخبوا جون كينيدي ثلاث مرات في اقتراع واحد. وعندما نتذكر ريمون اده لذاته نترحم عليه عشر مرات. وعندما نتذكره كنموذج ومقياس، نترحم عليه ونبكي حالنا.

وكان من طقوسي كل صيف ان اذهب لزيارته في فندق «المتروبول» في بلدة «بوليو» (الموقع الجميل) على المتوسط. وامضي النهار معه، وهو وحيد، حاد، مقهور ومكابر ومترفع. وكان يروي غالباً الأشياء نفسها والدعابات نفسها ولا يغير في التواريخ ولا في التفاصيل. لكنه كان يضفي على كل شيء من ملاحته ونقائه وصفوته، فيبدو المكرر مثل الشعر القديم: في كل قراءة بهجة الجديد.

وكان النهار برفقته يقصر ولا يقتصر، ولم نكن نقوم الى الغداء الا بعد الرابعة. ويُغضب الأمر الطباخين، فألفت نظره الى ذلك، فيقول بعربيته الملحونة: «بسِيتا. الدنيا صيفية». وكان يشعر بنقص شديد بسبب ضعفه بالعربية. وكلما حفظ قولاً فصيحاً تغنى به وتمسك بتكراره. وقد تضايق خصوصاً عندما وجد نفسه في جلسات مجلس النواب يتحدث بالعامية بينما خطباء المجلس هم ايضاً بلغاؤه. وكان اخطبهم بهيج تقي الدين. وأفصحهم نصري المعلوف. وأذكاهم رشيد كرامي. واثقفهم جان عزيز. وأهمهم كمال جنبلاط.

وذات مرة كتبت مقال الخميس عن ريمون اده، خلال معركة الرئاسة. وقد ظل مرشحي من الستينات حتى مات. وكنت اعرف تماماً، كما كان يعرف، انه لن يصل في اي يوم ولكن الانسان يكتب لضميره. وعندما تنافس ريمون اده مع الياس سركيس بدا لبنان، وهو في عز الحرب جزءاً من جمهورية افلاطون. فلم يكن انزه منهما واطهر منهما وكانا على خلق كبير. وروى لي الرئيس الياس الهراوي انه قبل ان يغادر الياس سركيس القصر الجمهوري، جمع الموظفين وقال لهم: هذا هو المال الذي بقي في صندوق المصاريف السرية المخصصة لي. وما لم احتج اليه بقي هنا. وانتم احق به من سواكم.

ذهبت الى «المتروبول» ذلك الصيف بعد اسابيع من مقال الخميس، فوجدت ان لديه عتاباً «بسيطاً» هذه المرة لأن عتاباً سابقاً كان قد ادى الى قطيعة دامت عامين. وكان يمكن ان تدوم لولا الزميل الحبيب سليم نصار ومكانته. وكان السبب يومها تفسير العميد للغة العربية. اما العتاب هذه المرة، فخلاصته انني «رشحت» العميد للرئاسة قبل ان يرشح نفسه رسمياً، وكثيرون ينسبون تلك الخطوة اليه، وخصوصاً الرئيس صائب سلام الذي يرفض التصديق بأن لا تنسيق في الأمر. ويكمل العميد مخاطباً نفسه: «يا عمي، يا صائب وين التنسيق. الزلمي في لندن وانا بباريس. شو خسني انا شو بيكتب شو ما بيكتب».

واما المسألة اللغوية هذه المرة، آه، آه، المسألة اللغوية، فقد ورد في مقال الخميس ان العميد «ذرب اللسان»، فماذا تعني كلمة «ذرب» هذه؟ «يعني شي مليح او مش مليح»؟ وقلت له، «معقول يا عميد؟ مقال بطوله وعرضه مليح وكلمة واحدة مثل «ذبابة في العسل».

ولم يكن ممكنا ان اشرح للعميد كلمة ذرب كما وردت في «لسان العرب» فقد سألني فورا: «شو هيدا لسان العرب؟ قاموس؟». منذ اعوام لم نعد نذهب الى «المتروبول» لكي نعد العصافير او نطعمها مع العميد على البحر. واذ كنت اقرأ اليوم في ابن منظور تذكرت «ذرب» وانا اضحك: ذرب الرجل اذا فصح لسانه بعد حصره. ولسان ذرب: حديد الطرف. وفيه ذرابة او حدة! لكن لسانه لم يحصر في اي وقت. وقال عنه رشيد كرامي «العميد بالع حنفية». وما رأى اعوجاجاً الا حاول تصحيحه. وما رأى خطأ وسكت عليه. وذات صيف ذهبت الى «المتروبول» والحال في لبنان قتوم والنفوس حزينة وكان في نفسي شك في ان ريمون اده قادر على دعوة الغداء التقليدية. فجلست وتحادثنا وعندما اصبحت الساعة الرابعة قمت لأمضي متظاهرا بأنني نسيت امر الغداء. فتطلع الي في عتب لا انساه قائلاً: «ولو؟ بتحرز نغير عوايدنا».