حماس في صفحة غاندية

TT

يبدو ـ لأول وهلة ـ أن حماس أبعد ما تكون عن غاندي وفلسفته القائمة على اللاعنف ومحبة الخصم، بيد أن سلوكها وتصريحات زعمائها تطابق ركنا رئيسيا من الغاندية. هذا الركن هو تحمل العذاب كسلاح رئيسي من أسلحة اللاعنف، أو ما أسميه بالجهاد المدني. الفكرة هي أن المظلوم إذا أمعن في تحمل تعذيب الظالم له؛ فإنه سينتصر عليه في الآخر بتمزيق ضميره وإثارة الضمير العالمي ضده. طبَّق غاندي هذا الأسلوب بإقناع المتظاهرين بالوقوف أمام الشرطة بدون مقاومة أو تحدٍّ، يتحملون الضرب بجلادة، حتى تسيل دماؤهم جزافا ويغمى عليهم. أثارت هذه المناظر الرأي العام داخل وخارج بريطانيا؛ بما أدت في الآخر إلى إرغام الحكومة على تغيير سياستها؛ وإعطاء الهند استقلالها.

تحمُّل العذاب نوع مؤثر من أنواع الجهاد اللاعنفي.. يجيد استعماله الطفل. فعندما تمنعه من شيء؛ يلقي نفسه في التراب، ويضرب رأسه في الحائط، ويلطم على صدره حتى يلين قلبك؛ فتعطيه ما يريد. كذا تفعل المرأة.. أحيانا تتمارض فعلا عندما يعاندها زوجها. يتفادى المحنة؛ فيذعن لما تريد؛ فتنهض من فراشها سليمة ومعافاة. والإضراب عن الطعام في السجون نوع سياسي معروف من سلاح تحمُّل العذاب.

انتقد الكثير من الزملاء سلوك حماس في تعريض الغزاويين لهذه المذبحة وهذه المعاناة. عقد البعض مقارنة بين ضحايا الطرفين.. فأمام مقتل ثمانية إسرائيليين، ضحى الفلسطينيون بأكثر من 1300 قتيل. هذه مقارنة مرعبة من الناحية العسكرية (وأحد مقابل أكثر من مائة)، وتقتضي محاكمة المسؤول عنها، ولكنها من الزاوية الغاندية لا تعني شيئا، بل وتبشر بخير.. فكلما تعاظم عذاب المظلوم؛ تعمقت محنة الظالم أمام ضميره وضمير العالم. لأول مرة أخذت تواجه إسرائيل هذا الغضب العالمي والانشقاق في الطائفة اليهودية التي بدأت تتخوف من تفاقم معاداة السامية والاعتداءات على اليهود. تعالت أصوات ساسة العالم لحل المسألة الفلسطينية.

قالت إسرائيل إنها تقوم بهذه العملية لضمان مستقبلها، ودحر من يهدد ذلك المستقبل. بيد أن ما جرى أخذ ـ في الواقع ـ يضع علامات الاستفهام على ذلك الوجود. راح الكثير يتساءلون.. إلامَ سيبقى العالم يواجه هذه المآسي المتكررة والمصاعب والأزمات بسبب ذلك؟

تحمُّل العذاب ليس بالشيء الذي يطيب للإنسان، لا بالنسبة للضحية، ولا بالنسبة للمتفرج. أنا شخصيا أخذت أتحاشى النظر إلى الصور والأفلام الواردة من غزة. كل هذا الطابور من جنائز الأطفال! الله يعين أصحابها، ولكن يبدو أنهم راضون بما يجري. لقد صوتوا لحماس وما زالوا ملتفين حولها. يظهر أنهم يتبعون فلسفة غاندي، بدون علم منهم. لقد ولدوا في عذاب، وعاشوا في عذاب، حتى أصبح العذاب طريقتهم ومنهجهم في الحياة. بيد أن حماس تنشق عن الغاندية بإيمانها بالعنف، فترد على العذاب بعذابٍ بإطلاق الصواريخ؛ فتعطي إسرائيل مبررًا لتعذيب الفلسطينيين.

www.kishtainiat.blogspot.com