.. وداوني بالتي كانت هي الداء

TT

بعد نشر «الشرق الأوسط» مقالي يوم الخميس الماضي حول عجز الإدارة الأميريكية الجديدة عن ابتكار حلول للمشاكل الدولية خلافاً لما وعد به الرئيس «بوش» ناخبيه من أنه سينتهج لإدارة البيت الأبيض خططاً أخرى مختلفة عن خطط سلفه «بيل كلينتون»، قرأت في الصحافة الغربية عدداً من المقالات التي تلتقي في استنتاجاتها وتقييماتها مع استنتاجات مقالي السابق. وجميعها اعتبرَتْ أن الرئيس «بوش» لا يملك رؤية واضحة في السياسة وبالأحرى هو عاجز عن ابتكار الجديد الذي وعد به.

وقد بادر الناطق باسم الإدارة الأميريكية إلى تسفيه ما سماه بالمزاعم التي تَنسُب للرئيس العجزَ، وذكر أمثلة عما توفق فيه الرئيس من توجهات جديدة، لكن لم يُقْنِع نطقُ المتحدث باسم الإدارة الجديدة أحداً. فما زالت «المزاعم» تتوالى عبر مصادر الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي مرددة أن منجزات الرئيس خالية من كل ابتكار، وأن عجزه عن التجديد يبدو واضحاً للعيان، وأنه هو سبب ما مُنيت به السياسة الأميريكية في عهده من تعثر وجمود وقد ندد بهذا العجز الرئيس الأميريكي الأسبق «جيمي كارتر».

في نطاق سياسة البحث عن الجديد يندرج ما ردَّ به الرئيس ـ وهو في «جَنْوى» بين رؤساء الدول المُصنّعة الذين يقال عنهم إنهم سبعة وثامنهم رئيس دولة اتحاد روسيا ـ على صيحات مناوئي العولمة من أن لا مناص لهم من قبولها والانخراط في منظومتها، إذ لا حل ـ في نظره ـ لمشاكل الفقر والبطالة وتنامي التفاوتات الطبقية بين كبار الأثرياء وبين المسحوقين من فصائل الشعوب في العالم إلا أن يزداد الغني تفاحشاً ليستفيد الفقراءُ من خيره في آخر المطاف.

أليس هذا التوجه الغريب ابتكارا من الرئيس الأميريكي لم يُسْبَق إليه؟ أليس بلسماً من نوع و«داوني بالتي كانت هي الداء» لم ينصح به طبيب قبله؟ إنه دواء شافٍ لمن يشكو من الإدمان على الخمر فينصحه طبيبه بأن لا علاج له إلا الإدمان عليها.

إن الرئيس الأميريكي ينصح فقراء العالم أن يتحملوا وضعهم القاسي المتمثل في الفقر والمرض والتهميش والإقصاء بصبر وشجاعة إلى أن يبلغ غنى المقاولات العملاقة أَوْجَه بعد عدة سنوات، وحينذاك سيمنح كبارُ الأثرياء معدمي الفقراء من بعض ما أفاءت به عليهم العولمة في شكل بضعة قروش «يَخْصِمونها» من بلايير الدولارات المكدسة في حساباتهم بالبنوك. وبهذه الطريقة «الجديدة» الساذجة يعتزم الرئيس حل مشكلة الفقر والتفاوتات الطبقية التي تأتي في طليعة سلبيات العولمة، والتي من أجلها صرخ مناوئو العولمة بأنهم يرفضون أن تكون أساس النظام العالمي الجديد.

منذ محطة «سياتيل» بـ (الولايات المتحدة الأميريكية) ومروراً بـ «ميلْبورن»، و«براغ»، و«كيبيك» وانتهاءً إلى محطة «جَنْوى» الإيطالية ومناوئو العولمة يحضرون عشرات الآلاف من شتى جهات العالم للتظاهر ضد مُنكَر العولمة. وهم يمثلون «قوات المواطنة» الجديدة التي أصبحت إحدى سلط النظام العالمي الجديد وتُنذِر أن تصبح السلطة الأولى.

وفي البداية لم يلتفت إلى هذه السلطة الصاعدة قادة العولمة واعتبروها حركة غوغائية لا تستحق الالتفات إليها وبالأحرى لا فائدة في التعامل معها. لقد تجاهلوا أصواتها التي داعبت أسماعهم في بعض المحطات لكنهم أصَمُّوا آذانهم عنها وهم منغلقون على أنفسهم في بروجهم العاجية. إن عدد المتظاهرين المناوئين للعولمة تنامى بين محطة وأخرى، وشعاراتهم أخذت تتبلور كل مرة أكثر من سابقاتها. إنهم يناهضون العولمة باسم العدل، ويناوئونها باسم الإنصاف، ويرفضون أن يتأقلموا مع واقعها المرير، ويطالبون بتخليقها وتهذيبها حتى لا تبقى الرأسمالية المتحكمة فيها وحشية بلا حدود، وكبار أثريائها هم سادة العالم بلا قيود، وبدون قبوله ورضاه.

كانت محطة «جَنْوى» أقوى المحطات وأخطرها. فقد تجاوز عدد المتظاهرين المائتي ألف، بينما لم يتجاوز العدد في محطة «سياتيل» خمسين ألفاً. ولأول مرة سقط في معركة مناوأة العولمة قتيل شاب إيطالي، وقارب عدد الجرحى خمسمائة. ووصف رئيس الحكومة الإيطالية «بِرْلوسكوني» الأحداث بالمأساوية. إن الأمر بدا جداً لا هزلا. فالمناوئون للعولمة أخذوا يسترخصون أرواحهم في نصرة ما اعتقدوه وآمنوا به وهم يستهينون بما تكلفه مناوأتهم للعولمة من تضحيات.

ولقد كان المفروض ـ وقد بلغ سَيْلُ مناوأة العولمة الزُّبى ـ أن يستيقظ في القادة الكبار صانعي العولمة ضمرُر وخْزٍ يثوبون معه إلى رشدهم، لكن القطب الأميريكي لم يستيقظ إلا لينصح المتظاهرين بـ «ضبط النفس»، (كما اعتاد أن يقول للفلسطينيين المعتدى عليهم من لدن إسرائيل) وبالتحلي بالصبر والشجاعة في تحمل وباء العولمة، وأن يعالجوا أنفسهم منه بالمزيد من الاستسلام له والكف عن التنديد به والتظاهر لإسقاط نظامه.

ولحسن حظ مناوئي العولمة فإن قادة آخرين كانوا حاضرين في القمة أصبحوا يَعُون أن علاج مناوئي العولمة لا يتحقق بوصفة «بوش» الطبية، مما جعل الرئيس الأميريكي في عزلة.

لقد قال الرئيس الفرنسي «جاك شيراك»: «إن وجود هؤلاء المتظاهرين قريباً منا، ومطاردتهم المستمرة لاجتماعاتنا وإعلانهم مناوأة نظام العولمة كلما عقدنا قمتنا عبر العالم، كل ذلك يعني أنهم يحسون بإحساس عميق ومؤلم حيال سيئات العولمة. وعلينا أن نفتح آذاننا لسماع صيحاتهم، وأن نحاورهم لنعرف ما يريدون. وإذا اقتضى الأمر فعلينا أن نراجع تطبيقات العولمة لنجعل منها نظاماً ذات صبغة إنسانية».

وتحدث بعده الوزير الأول الكَنَدي الذي ستستضيف بلاده القمة المقبلة فقال: «نحن مضطرون إلى استقبال القمة القادمة في جو من التقشف تبتعد به عن مظاهر البذخ والفخفخة التي عرفتها القمم السابقة. وأرجو أن يكون عدد المشاركين قليلاً ونفقات إيواء المؤتمرين أقل استفزازاً، لأن الكيفية التي يتم بها لحد الآن انعقاد القمم مُثيرة ومستفزة. وسنتلافاها عند انعقاد القمة المقبلة في معتزل كاننكسي بكندا بعيداً عن الأنظار».

لقد وُلدت العولمة بعد مخاض طويل وخرجت إلى الوجود تطبيقاً والخلاف محتدِم على أشده بين أنصارها ومناوئيها. وكلما قطعت الأشواط على طريقها كان يبدو أن سيئاتها تعلو على حسناتها، أو أن سلبياتها تفوق إيجابياتها.

ومنذ أسبوعين فقط أصدرتُ كتاباً في نقد العولمة تحت عنوان «العالم ليس سلعة» شرحت فيه ما للعولمة من سلبيات، وأبرزت أن الجانب السلبي يطغى فيها على الإيجابي، ودعوت إلى تخليق هذا النظام وتهذيبه حتى تعلو فيه إنسانيته الأليفة، على وحشيته الضارية المخيفة.

ذلك لأن العولمة ليست كلها شراً لكن تطبيقاتها لفائدة الرأسمال الأكبر والأقوى جعل منها نظاماً يسود فيه الرأسمالُ الكبيرُ الذي يلتهم الرأسمالَ الصغيرَ التهامَ الحيتان الكبرى للسمك الصغير.

وهي تعتبر نفسها نظاماً يفضي في النهاية إلى التخفيف من بؤس البؤساء إذ يتيح نظام السوق لهؤلاء الآخرين حرية التنافس على الربح عندما يفتح لهم الأسواق بلا حدود. لكن كيف يتأتى للبؤساء المستضعفين ذلك أمام ظروف عدم التكافؤ في التنافس، ففاقد الشيء لا يعطيه؟

وقد بدا أن العولمة ليست كما قيل عنها نظاماً اقتصادياً لتنظيم اقتصاد العالم وترشيده، بل هي منظومة متكاملة شاملة لا تترك على طريقها مجالاً إلا وعوْلَمته، بدءاً بالاقتصاد، ومروراً بعولمة العلوم والفنون والقضاء والديبلوماسية إلى الخصوصيات المميزة للشعوب، وحتى الهُويات.

كما بدا أن هذه العولمة هي نسخة طبق الأصل من النظام الأميريكي الذي يراد تصديره إلى العالم في شكل العولمة دون أن تحمل عُلَبُه وقوالِبهُ العبارة المستعملة عادة في التصدير: «صُنع بالولايات المتحدة الأميريكية».

ولقد أغنت العولمة حياة الإنسان وقربت فصائله بعضها من بعض، وخاصة بعولمة الإعلام وتيكنولوجيا التواصل وبواسطة الأنتيرنيت الذي يساهم في نشر المعرفة العالمية وينقلها بكل يسر إلى المكاتب والبيوت.

لكن الذي يتظاهر من أجله عالم المواطنة الحرة ليس هو إيجابيات العولمة ومنافعها، بل التفاوتات الطبقية التي يخلقها نظام العولمة غير المتوازن بين فصائل الفقر الموزعة على العالم وبين جزيرة الثراء الفاحش المنعزل عن المحيط العالمي.