باراك أراد مَنْ يوقّع اتفاق استسلام

TT

يأتي مقال ايهود باراك (المنشور في هذه الصفحة) في سياق حملة الهجوم الاخيرة على سمعة عرفات التي انطلقت من اسرائيل والولايات المتحدة منذ انهيار مفاوضات كامب ديفيد السنة الماضية.

ورغم اني لم احمل ابدا تعاطفا كبيرا تجاه ياسر عرفات، لاسباب تختلف كثيرا عن تلك التي اشار اليها باراك، فانني اعتقد ان اسباغ طابع شخصي على قضية مركبة ومؤلمة لا يمكن ان يفضي الا الى مزيد من التشويش. فعرفات الذي بات الآن عرضة للذم والقدح من جانب الاسرائيليين على كافة مشاربهم، ومعهم انصارهم في الولايات المتحدة، هو نفسه الذي قدمه ذات الاشخاص على انه الزعيم الفلسطيني الوحيد القادر على تحقيق السلام.

وكان الاسرائيليون لجأوا الى تدشين مسار اوسلو السري لتجاوز عملية مدريد التي استثني منها عرفات شخصيا، وفي هذا المسار تحول عرفات الى الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي تقبل اسرائيل بالتعامل معه. الى جانب ذلك كال القادة الاسرائيليون المتتابعون مديحا مفرطا لعرفات، ووصفه اسحق رابين على انه «قائد ملتزم بقضية السلام»، واشار اليه شمعون بيريز مرارا بـ«صديقي ياسر»، كما ان باراك قال لكلنتون في كامب ديفيد بانه يعتبر عرفات «الرجل الذي اثق به واحترمه».

هل من الممكن القول ان الزعماء الاسرائيليين، وبينهم باراك، كانوا على صواب وانهم الآن على خطأ؟ او انهم كانوا على خطأ وباتوا على صواب الآن؟ او ربما يكونون على خطأ في الحالتين.

يتساءل باراك في مقاله ان كان هناك شريك يمكن للاسرائيليين التوصل الى السلام معه؟ غير انه يحق للفلسطينيين اثارة التساؤل نفسه. فمفاوضات كامب ديفيد لم تنهر ببساطة لان عرفات لم يكترث بها، إذ ان كل ما سعى اليه هو اجراء مزيد من المفاوضات لتوضيح الصفقة التي رماها باراك فجأة في وجهه. ونحن لا ندري تماما تفاصيل تلك الصفقة، وباراك نفسه قال في مقاله ان التفاصيل الكاملة لم تكشف. مع ذلك، وبالحكم بناء على ما نعرف فان عرفات فعل ما يمكن ان يفعله اي مفاوض جاد بطلب المزيد، وبرهن على انه كان محقا في ذلك عندما وافق باراك نفسه على منحه المزيد في مفاوضات طابا اللاحقة.

ويذهب الاعتقاد الشائع بان فشل «عرض السلام السخي» الذي قدمه باراك كان وراءه الفشل في الاتفاق على مسألة واحدة هي اصرار عرفات على حق العودة للاجئين الفلسطينيين. غير ان فهمنا لمجريات الامور يقول بأن هذه المسألة، رغم اهميتها، لم تكن الوحيدة. فصفقة باراك كانت اشبه ما تكون بمخطط لانشاء دولة فلسطينية ذات سيادة منقوصة ويبقيها خاضعة لحق سيادة اسرائيلي لاجل غير محدد. على سبيل المثال فان صفقة باراك حرمت الفلسطينيين من حق السيطرة على مجالهم الجوي ومنحت اسرائيل القول الفصل في حجم وطبيعة القوات الامنية التي يمكن للدولة الفلسطينية المزعومة تشكيلها. كما منحت الصفقة اسرائيل الصوت الاكبر في تحديد السياسات الخارجية والتجارية لهذه الدولة. ولا يمكن لباراك اثبات خطل قراءتنا لتلك الصفقة الا بنشره تفاصيلها الكاملة. اما حق العودة فلا يمكن لعرفات التنازل عنه من جانب واحد، فالقانون الدولي يقر بهذا الحق لكل لاجئ، ولهذا ليس في وسعه او وسع اي شخص آخر الغاؤه. ولا يزال اليهود الذين طردوا من منطقة بحر البلطيق ووسط اوروبا قبل 50 عاما يطالبون الى الآن بحقهم في العودة. وينبغي على اسرائيل بصفتها عضوا في الامم المتحدة القبول بحق العودة للفلسطينيين، ولكن بوسعها التفاوض حول التطبيق الفعلي لهذا الحق بصورة لا تهدد التوازن الديموغرافي القائم والصفة اليهودية للدولة. ولو توفرت النوايا الحسنة لكان بالامكان ايجاد حل لهذه المسألة من خلال سلسلة من الاجراءات المعقدة والفعالة. ويزعم ويليام سفاير، في مقاله المنشور في صحيفة «نيويورك تايمز» مع مقال باراك، ان لعرفات خطة سرية تقضي على المدى الطويل بترحيل اليهود عن الشرق الاوسط ومسح دولة اسرائيل من خارطة العالم. وما هذا سوى هستيريا محضة مغلفة بثوب التحليل السياسي، وعندما يتظاهر باراك بان عرفات مسؤول بشكل منفرد عن حالة الاخفاق الراهنة فانه يشارك في هذه الهستيريا. ويعترف باراك دون ان يدري، ربما، بأن التصلب الاسرائيلي كان من بين اسباب ذلك الاخفاق. وهو يقول ان الرأي العام الاسرائيلي لم يعد يثق بعرفات ويريد الانتظار الى حين بروز قيادة فلسطينية جديدة. غير ان ما يسكت باراك عن قوله هو ان ما تطرحه اسرائيل الآن في ظل رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون لن تقبل به اي قيادة فلسطينية مستقبلية. فلا يتجاوز ما يطرحه شارون حدود سيطرة الفلسطينيين على 42 في المائة من الاراضي المحتلة، وهو يصر على استبقاء اسرائيل ملكيتها وسيطرتها على كل القدس. وغني عن القول انه يرفض الاقرار بحق العودة لاي من اللاجئين الفلسطينيين، بل انه يقول بانه يريد جلب مليون من اليهود وتوطين بعضهم في الـ58 في المائة من الضفة الغربية التي يأمل في ضمها نهائيا الى اسرائيل.

وهنا لا بد من القول بأن المشكلة الحقيقية هي ليست عدم وجود شريك سلام على الجانب الفلسطيني. فكل ما يمكن للفلسطينيين تقديمه هو القبول بوجود اسرائيل كدولة، وهم فعلوا ذلك، وان كان ثمة ما يقدم فينبغي ان يصدر عن الجانب الاسرائيلي. اما ما تبحث عنه اسرائيل على الجانب الفلسطيني في الوقت الراهن فلا يتمثل في شريك سلام بل في شخص على استعداد لتوقيع اتفاق استسلام.

وهذه هي المشكلة التي لا يمكن حلها الا عندما يقدم الى الفلسطينيين عرض لا يمكنهم رفضه. وباراك لم يقدم مثل هذا العرض، وليس من اشارات على ان هناك زعيما اسرائيليا آخر على استعداد لفعل ذلك في المستقبل القريب. ونحن جميعا نشاطر باراك في تشاؤمه.