الملك عبد الله بن عبد العزيز: تجاوز الانقسام.. واستعادة القدرة على القرار

TT

من قمة مجلس التعاون بالرياض، إلى قمة الكويت، استطاع العاهل السعودي تجاوز الانقسام الخليجي والانقسام العربي، وطالب، استنادا إلى هذين التجاوزين، بتجاوز الانقسام الفلسطيني، والاتجاه إلى تحقيق السلام الضروري لتحرير الأرض العربية المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية الواحدة والمستقلة. أما الرئيس المصري، فقد مضى من قمة شرم الشيخ الدولية، إلى قمة الكويت، معلنا رفضه لاختزال القضية الفلسطينية في غزة، واختزال غزة في معبر رفح.

لقد كان شهرا صعبا على شعب فلسطين، وعلى الأمة العربية، بدا فيه العرب ضائعين، بين العدوانية الإسرائيلية، والاستقطابات الإقليمية والدولية. وكان شهرا صعبا، لأن الفاعلين الدوليين بدوا معطلين، انتظارا للترتيبات الجديدة في إدارة أوباما، كما بدا الفاعلون الإقليميون - وعلى وقع الطائرات والمدافع والصواريخ والرحلات المكوكية - منشغلين بجمع الأوراق المغمسة بالدم العربي، لكي يواجهوا الإدارة الجديدة بها. وكان المعلقون الصحفيون والتلفزيونيون، يصدرون تخميناتهم المنذرة بإحدى ثلاث حروب: الحرب على غزة، أو الحرب على لبنان، أو الحرب الإسرائيلية على إيران. وجرى اختيار غزة من جانب إسرائيل - وجرى استدراج حماس ومن وراءها إليها، في حين حسبت حماس ومن وراءها إنهم إنما يستدرجـون الإسـرائيليين إلى هناك!- بحثا عن كسب سريع ومؤكد بالنار والحديد، من أجل الانتخابات من جهة، واستعادة معنويات العسكر، وإرعاب الخصوم، وكما جرت عليه العادة منذ حرب العام 1982 على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى لبنان وبيروت، تحول الهجوم الإعلامي بعد أسبوع الغزو الأول، إلى حملة شعواء على مصر، ثم على السعودية، بعد أن كانت تلك الحملة قد بدأت قبل أكثر من شهرين، وتصاعدت خلال الغزو الإسرائيلي لغزة. وبلغت تلك الحملة ذروتها الأقصى في «قمة غزة» بالدوحة، وتهليل الفضائيات لنهاية «المبادرة العربية»، وبدء عهد جديد من المواجهة بين العرب أنفسهم، لا بينهم وبين الكيان الغاصب والمحتل!

ولست أذكر ذلك كله للتذكير بالآلام والمخاطر وحسب، بل لإيضاح الخلفيات والسبل التي اجترحها المعسكر العربي للخروج من المأزق. كان الانقسام العربي حاصلا، وكذلك الانقسام الفلسطيني، وهذان الانقسامان أريد بهما محاصرة العرب، ومحاصرة مصر على الخصوص. ثم جرت وقائع التصدع الخليجي من أجل محاصرة السعودية وتعطيلها. ولذلك فقد جاء الهجوم المضاد من جانب العرب الكبار على هذين الخطين بالذات: جمعت المملكة الخليجيين بالرياض، ووقفت مصر النار المندلعة على حدودها، وذهبتا إلى قمة الكويت لرأب الصدع العربي، واستعادة الزمام، ووضع العقل والتوحد العربي في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي والإقليمي للأرض العربية والإرادة العربية والقدرة العربية على اتخاذ القرار. ولكي يكون واضحا ما يواجهه العرب، فإن هذا التصدع الذي بدا في صفوفهم وفي بصائرهم، ما كان، منذ العام 1948 وإلى اليوم، بسبب التآمر بالدرجة الأولى، بقدر ما كان بسبب العجز والضعف. والعاجز، لسبب أو لآخر، إما أن يهرب إلى الأمام، كما فعل الذين اجتمعوا بالدوحة، وإما أن ينكفئ، كما فعلت معظم الدول العربية في الحقيقة. وهذان السلوكان هما اللذان دفعا العاهل السعودي والرئيس المصري إلى القيام بالمبادرتين المتلاقيتين والمنسقتين. ذكرهم الرئيس المصري بأصل القضية، وفتح العاهل السعودي الأفق الذي بدا أسود ومسدودا. فإلى أين يمضي العرب، إذا أعرضوا عن مصر أو دفعوها إلى الانكفاء من جديد؟ وإلى أين يمضون إذا تخلوا عن سبيل دفعت إسرائيل منذ زمن باتجاه مغادرته؟! فقد كان الإسرائيليون دائما هم الذين يقررون متى تقع الحرب، وهم، يريدون بالإضافة إلى ذلك، دفع العالم إلى الاقتناع باستحالة السلم. وبين هذا الطرف وذاك، وعندما كانت الآلام تكاد تتغلب على العقل وتقدير العواقب، أقبل السعوديون والمصريون على أولئك الذين كانوا يندفعون لمخاصمتهم هم، لا لمخاصمة إسرائيل، ليقترحوا أفكارا وسبلا للخروج جميعا من المأزق، واستعادة الأرض والكرامة، وقبلهما أو معهما القدرة على التفكير والقرار.

وما تجاهل العاهل السعودي الصعوبات، حتى إذا توحدت الكلمة بالفعل. هناك الخراب بغزة العزيزة والمناضلة، والذي ينبغي التخلص منه بأسرع ما يمكن، صونا لأهل غزة وفلسطين عن أن يكفروا بأمتهم أو يساورهم ويساور شباب الأمة اليأس. وهناك الانقسام الفلسطيني الذي ما عرف مثله النضال الوطني من قبل. وهناك مخاطبة المجتمع الدولي، وقبله ومعه إسرائيل. فالمبادرة العربية للسلام الشامل - كما قال العاهل السعودي - لن تبقى على الطاولة إلى الأبد. وهذه المرة ليست ككل المرات: إما أن يتوحد الفلسطينيون، والعرب جميعا معهم، فيقووا على دفع إسرائيل والمجتمع الدولي باتجاه إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وإما أن يخلد في صفوفنا وصفوف الفلسطينيين الانقسام، وتتعرض المنطقة العربية لزلازل وعدم استقرار كفيلين بتخليد التبعيات ومناطق النفوذ، والكفر بالأمة والدولة والوطن.

ليست المشكلة في قطر أو السودان أو موريتانيا أو جيبوتي أو جزر القمر، بل المشكلة في سورية التي كانت مستعدة للاندفاع إلى أقاصي الغرب أو الشرق، دونما إرادة للتنسيق مع العرب الكبار، لا في الحرب، ولا في التسوية، فالحرب أو المقاومة - حسب التعبير السوري - تجريان مع الأطراف الإقليمية والثوريات. والسلم يجري التماسه من جهات أخرى إقليمية ودولية. وكانت الحجة في الأعوام الثلاثة الماضية، أن السعوديين والمصريين معرضون عنها. وها هم قد أقبلوا عليها، وهي طرف وازن وشريك، لأنها بيئة عربية بارزة، ولأن عندها أرضا محتلة. وقد أراد الرئيس الأسد من قمة الكويت أن تكون قمة قرارات لا تسويات. وقد سوى العرب شكوكه، فليستعد هو ثقتهم.

والمشكلة في الانقسام الفلسطيني، الذي اندفع طرفاه باتجاهات متناقضة، مستعينين بشتى الجهات والأساليب. وقد جاءت ساعة الحقيقة في غزة، ومن غزة، التي وقعت بين فكي ذلك الانقسام. لا بد أن يتلاقى الطرفان في مصر، ليتعاونوا في إعمار غزة، وليتعاونوا في تشكيل سلطة انتقالية، ستبقى، أيا كانت، تحت الاحتلال أو تحت وطأته، حتى تقوم الدولة الفلسطينية. وقد كان العرب مخطئين في ترك فلسطين لـ«القرار الوطني الفلسطيني المستقل». لأنه ما كان دائما مستقلا، ولا حقق الكثير المعتبر في نظر الشعب الفلسطيني. وما تحسن الوضع حين استعلت التنظيمات الثورية الإسلامية. فعلى العرب أن يجلسوا على الطاولة - لا في ميادين القتال فقط - مع الفلسطينيين، حتى يتفقوا، وبأي ثمن. لا استبعاد لحماس، ولا ترك لها بين إسرائيل والفاعلين الإقليميين. وتستطيع الانتخابات الفلسطينية القادمة أن تحكم لهذا الطرف أو ذاك، أو تحكم عليهما بالشراكة الدائمة!

والعرب شريك خطير ووازن في ملفات الطاقة، والممرات الاستراتيجية، وثقافة العالم وأديانه. وقد دعوا للكويت في الأساس لمعالجة القضايا الاقتصادية، وصنع التكتل الاقتصادي العربي، والسوق العربية المشتركة. وكان الملك عبد الله بن عبد العزيز قد سار مع العالم في العامين 2007 و2008 في حوار الأديان والثقافات والسياسات. وبسبب الأزمة المالية العالمية نحن الآن في حوار مع العالم في الاقتصاديات أيضا. فلا بد من وضع الوزن العربي السياسي والاستراتيجي والاقتصادي والثقافي، في كفة الميزان، لبلوغ حل في فلسطين، وبلوغ شراكة حقيقية في النظام الدولي، من أجل أمن المنطقة العربية وأمن العالم.

إن المعنى العميق للمبادرة السعودية والمصرية في قمة الكويت، هو استعادة القرار في المنطقة العربية، بعد أن أوشك القرار أن ينسى، والهوية العربية أن تضيع، وإذا كنا نريد أن لا نبقى في مرمى مدافع إسرائيل، فيكون علينا أن نعمل، لكي لا يظل قرار الحرب وقرار السلم وقرار الوحدة، بأيدي الفاعلين الدوليين والإقليميين.

قال الملك عبد الله بن عبد العزيز في كلمته أمام المؤتمر: «تجاوزنا الخلافات العربية، وبدأ عهد الأخوة. والأخوة التزام وإلزام، وهذان أمران يتجاوزان العلاقات الشخصية، وإن تكن الأخيرة مهمة. لكن بالإلزام والالتزام يمكن العودة لتناول المسائل العربية الكبرى، والتطلع والعمل على السير في معالجات لها، ترضي الجمهور الساخط، وهي بالتحديد القضايا التالية: النمو من طريق التعاون، وهو لم يحدث من قبل، أو أنه ما حدث بالقدر الكافي، وينبغي أن يحدث الآن. وقد تقدم أمين عام الجامعة العربية في مؤتمر الكويت، بخلاصة دراسة قامت بها الجامعة، وتقترح أفكارا لمشروعات تتلاقي في البحوث التي أجرتها الجامعة، أو كلفت عددا من الباحثين بإجرائها. والقضية الثانية: حل المشكلة الفلسطينية، خدمة لإنسانية الإنسان، وللاستقرار، وصونا للمنطقة عن التدخلات الخارجية، وسياسات مناطق النفوذ. أما القضية الثالثة، فهي التي بدأها الملك عبد الله بن عبد العزيز بالحوار الفكري الداخلي، وحوار الأديان والثقافات، مع الخارج. فهي تعني العمل على تجديد وتطوير العلاقة بالناس، وتجديد الشرعية بتغيير العلاقة بين الدولة والجمهور، وعدم البقاء على هذا الجمود، مما أدى، ويؤدي، إلى انشقاقات وانقسامات ومعارضات ناجمة عن الغضب، لا إلى وجود البدائل.