العداء الكيني

TT

لا أتابع النشاطات الرياضية إلا في الدورات الأولمبية. ولست أعرف فيها سوى القليل. ومن هذا القليل رسخ في ذاكرتي أن الكينيين يربحون دائما سباق الحواجز. شبان طوال القامات طوال السيقان، ما أن يطلق الحكم مسدسه حتى يكونوا قد عدوا مثل الريح، كأنما أجنحتهم في أرجلهم.

هل ذكركم بشيء آخر، هذا الكيني المدعو باراك حسين أوباما، وهو يقف، ظهر الثلثاء، على منصة التاريخ، وكأنه يألفها منذ حفل التنصيب الأول، قبل مائتي عام؟ كأنه في بيته، لا في بيت لنكولن وروزفلت وكينيدي؟ كنت أتأمله يخطب في أهل الكون، وأنا أتذكر يوم ألقى ذلك الخطاب عن رحلته إلى قرية والده، العام 1989.

تنقل في كينيا مع شقيقته أوما (امة) الأستاذة الجامعية «في سيارة فولكسفاغن خنفسة عمرها 10 سنوات وعندما تعطلت أمام حديقة اوهورو (الاستقلال) كان علينا أن ندحشها إلى أن جاء ميكانيكي وأصلحها. كنت أنام على كنبة في شقة أختي وأتناول الطعام في أسواق نيروبي. ثم سافرنا بالقطار والشاحنات مع الدجاج وأحيانا مع أطفال يجلسون في حضني. لكنها كانت رحلة ساحرة اكتشفت خلالها طاقة الكينيين على الأمل في أقصى ساعات اليأس».

هناك بانت له الطريق التي قطعها حسين اوباما من راعي ماعز إلى طالب في جامعة هاواي ثم في هارفارد ثم أحد كبار خبراء الاقتصاد في كينيا. هل بدأ يومها يحلم بأن يحلق فوق كل الجسور المتخيلة إلى أن يصبح رئيس أميركا؟ هل يمكن أن يحلم رجل ولد أبوه في قرية اليغو الكينية بأن يصبح الرئيس الرابع والأربعين؟ أين هو السر في الجرأة على الحلم؟ في استواء الزمن ونضوج التاريخ؟ في قدر الرجال والأمم؟ وقدر من هو على وجه الضبط، قدر أميركا، أغنى بلاد العالم، أم قدر كينيا، أكثرها فقرا وجمالا؟

عندما تحدث اوباما قبل عامين عن رحلته إلى كينيا وبارك «الاوهورو» وأسواق نيروبي الشعبية، كنت أعود في ذاكرتي إلى رحلة رائعة من رحلات الصبا. يومها كان العالم يحلم لكينيا برجال يديرون انتقالها من مرحلة الاستعمار والغابات والصراع القبلي، إلى مرحلة النمو والتقدم. لكن الفساد سبق الجميع.

جاءت زوجة جَّد اوباما إلى حفل التنصيب حاملة له هدية من البلاد: ذنب ثور لكش الذباب. هذا الذنب حمله جومو كينياتا العام 1964 ليصرخ «هارامبي». الحرية. وكنت أرتعد بين الحضور وأنا اسمع عشرات الآلاف يرددون الصرخة خلفه. لكن كينيا كسبت الحرية من الاستعمار وأعطيت العبودية من حكامها. هنا، الديكتاتور لا يغيره أحد، في حين زالت رئاسة جورج بوش، آليا، الساعة الثانية عشرة من 20 كانون الثاني 2009، اليوم الذي لم يعد جورج بوش رئيسا. الباقي ليس شديد الأهمية.