السير الذاتية.. وأطراف من قصة حياة

TT

حياة كل إنسان رواية تستحق أن تكتب، فكما يختلف الناس في بصمات إبهامهم، فهم يختلفون أيضا في تجارب حياتهم، إذ لكل إنسان حياته، التي قد تختلف في الكثير من تفاصيلها عن حياة الآخرين، ومن هذه القناعة تشدني السير الذاتية التي يكتبها السياسيون والأدباء والفنانون، وحتى المغمورون أيضا، فهي بالنسبة إليّ الفن الأدبي الأكثر إثارة وإبداعا وتشويقا.

هذا الميل إلى قراءة السير جعلني أحتفي بكتاب الإعلامي والأديب الدكتور عبد الله مناع «بعض الأيام.. بعض الليالي»، الذي صدر حديثا في السعودية، واحتوى ـ كما أشار مؤلفه ـ على أطراف من قصة حياته، وأنا أغبط المناع على إقدامه على كتابة سيرته أو بعض أطرافها، في زمن لم يزل فيه الكثيرون في مجتمعنا يتهيبون من طرق هذا المجال، حرصا على دثار الذات، أو خشية ردود الفعل الغاضبة إذا ما تناثرت شظايا السيرة لتصل إلى تخوم الآخرين.

وكتاب المناع «بعض الأيام.. بعض الليالي» اتسمت فصوله الأولى بأبعادها الإنسانية في أحاديثها عن اليتم، وإيقاع الحارة، ومناخات المدينة، ثم اتسعت دائرتها بعد ذلك لتشمل ـ إلى جانب جدة ـ مدنا وعوالم أخرى، مبرزة تفاعل الذات مع كل ما أحاط بها من شخصيات وأحداث وثقافات، في مختلف مراحل تكوينها، واتساع الأبعاد الإنسانية في هذه الفصول يمكن أن يتقاطع مع حياة الكثيرين من قراء الكتاب، فيجدوا فيها بعضا من ملامح ذواتهم، وشيئا من تجاربهم، لكن هذا الاتساع في السيرة لا يلبث أن يضيق قليلا، حينما تتدرج الفصول لتصل إلى «الخاص جدا» في مشوار الكاتب مع الصحافة، والدخول في حاشية التفاصيل الدقيقة، التي تتجاذب السرد فيها مسيرة الصحافة مع سيرة الذات، وهذه الفصول المتأخرة من الكتاب قد تستنهض جدل الإعلاميين ـ لتباين زوايا الرؤية ـ أكثر مما تستنهض اهتمام القراء العاديين.

ولجدة بأنسها، وناسها، وأسواقها، ومقاهيها، وميادينها، حضورها الغالب، باعتبارها الفضاء المسرحي، الذي احتضن جل فصول السيرة، وشكل هذا الحضور مجموعة من الصور البهية لملامح هذه المدينة، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ونجح المناع في تكثيف تشابكات الذات مع الزمان والمكان، بل والتوحد معهما بصورة لا تجعل الكتاب مجرد سيرة ذاتية لكاتبه، بل هو ـ في عدد من فصوله ـ يؤرخ لمسيرة مدينته ومجتمعها في مرحلة زمنية معينة.

هذه السطور ليست احتفاء بالكتاب فحسب، بل هي أيضا محاولة لتحريض الآخرين، ممن لهم تجاربهم الحياتية، على الكتابة، فإذا كان الشعر يمثل ديوان العرب، فإن السير الذاتية ـ لو توالت ـ ستشكل في مجموعها أهم دواوين المجتمع. ولكي ندرك فداحة غياب التدوين، دعونا نتذكر الكبار الذين رحلوا عن حياتنا، وكل ما تبقى لدينا منهم، وعنهم، قبض ريح!

[email protected]