(الصدمة الموقظة).. والمضامين الحية.. في خطاب العاهل السعودي

TT

(الصدمة الموقظة).. هذا الوصف هو ما يمكن أن يوصف به خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة الكويت (19/01/2009)، فهو (صدمة) من حيث إن الجميع لم يتوقعه، بمعنى أن الخطاب - مضمونا ووضوحا وهدفا - كان مفاجئا. وهو (صدمة) للذين يتعجلون دوما بـ(نعي الدور السعودي)، العربي والإقليمي والإسلامي، ولشدة طغيان أهواء هؤلاء المتعجلين بالنعي فإنهم لا يفرقون بين اجتهاد دبلوماسي جزئي أو ظرفي، قد ترتفع أو تنخفض فيه نسبة الصواب (وفي هذا المجال ليس هناك عصمة لأحد، بمن في ذلك آحاد الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هؤلاء لا يفرقون بين هذه الجزئيات والدور السعودي (المرتكز إلى أساسيات عربية وإسلامية، لا يماري فيها إلا من ضعفت الأمانة في ضميره وعلى لسانه). فهذا الدور الطبيعي والطليعي مرتبط - عضويا ووظيفيا - بعروبة المملكة العربية السعودية، وهي عروبة غير قابلة للمزايدة عليها، فهذا البلد - منذ كان - منسوج من (أرومة العروبة)، إذ هو مهد (الفصيل العربي) من (الساميين)، الذين كانت جزيرة العرب منبتهم ومنبت لغتهم، ومسرح حركتهم. وهذا الدور السعودي الطبيعي والطليعي مرتبط - عضويا ووظيفيا - بـ(الإسلام)، الذي كانت (الجغرافيا السعودية) متنزله، وبيئة رسوله، مولدا ومبعثا ومثوى، وإقليم دولته الأولى، وموئل مقدساته العظمى. وهذه كلها ركائز ارتكزت عليها المملكة العربية السعودية، وهي ركائز يستحيل تجاهلها أو تجاوزها. وإلا فليس هناك عاقل يهمل رصيده الضخم والمشرف أو ينساه، بل العقل السياسي والحضاري يوجب الإضافة الحصيفة إلى الرصيد العظيم، لأن العمل السياسي والحضاري الناجح: نقط إيجابية متراكمة ينبني لاحقها على سابقها. وإنا لنجد هذا المفهوم السياسي المتألق في عبارة موفقة للملك عبد العزيز، إذ قال: «كل أمة تريد أن تنهض، لا بد لكل فرد فيها من أن يقوم بواجبات ثلاثة. أولها واجباته نحو الله والدين، وثانيا واجباته في حفظ أمجاد أجداده وبلاده، وثالثها واجباته نحو شرفه الشخصي».

والخطاب (صدمة) لجماعة (الفوضى الخلاقة)، ذلك أن الخطاب قد دعا - بقوة - إلى إنهاء الخلافات والانقسامات العربية. ومن المعروف أن الفوضى الخلاقة لا يمكن تصورها عمليا إلا في مناخ الانقسامات والفتن.

والخطاب (صدمة) للذين توهموا أن السعوديين ينظرون إلى مبادرة السلام العربية كـ(نص مقدس) لا يجوز المساس به أو الاجتهاد فيه! لا كنص سياسي قابل للاجتهاد، وذي عمر زمني افتراضي. فقد حسم الملك عبد الله بن عبد العزيز هذه المسألة فقال: «إن على إسرائيل أن تدرك أن الخيار بين الحرب والسلام لن يكون مفتوحا في كل وقت، وأن مبادرة السلام العربية المطروحة على الطاولة لن تبقى على الطاولة إلى الأبد».

والخطاب (صدمة) لغلاة الصهيونية من قادة إسرائيل، أولئك الذين ظنوا أن طرح مبادرات السلام يعني التهاون في الحقوق، والتعايش مع المحارق الصهيونية، والكف عن إدانة إسرائيل بأقسى العبارات والمفاهيم. وتتمثل هذه الصدمة لقادة إسرائيل في قول العاهل السعودي: «لقد شهدنا في الأيام الماضية مناظر بشعة ودامية ومؤلمة، ومجازر جماعية تنفذ تحت سمع العالم وبصره، على يد عصابة إجرامية لا مكان في قلوبها للرحمة، ولا تنطوي ضلوعها على ذرة من الإنسانية».

ولقد كان الإقليم كله - بل العالم كله - في حاجة إلى هذه (الصدمة) التي تخرجه من غيبوبته التي طال أمدها.

والخطاب (صدمة) للقادة العرب المجتمعين في قمة الكويت، صدمة تبدت في (النقد الذاتي المباشر) لهؤلاء القادة. قال الملك: «يجب أن أكون صريحا صادقا مع نفسي ومعكم، فأقول إن خلافاتنا السياسية أدت إلى فرقتنا وانقساماتنا وشتات أمرنا، وما زالت هذه الخلافات عونا للعدو الإسرائيلي الغادر، ولكل من يريد شق الصف العربي لتحقيق أهدافه الإقليمية على حساب وحدتنا وعزتنا وآمالنا. إننا قادة الأمة العربية مسؤولون جميعا عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا، وعن الضعف الذي هدد تضامننا. أقول هذا ولا أستثني أحدا منا».

لا ريب أن هناك مخططات خارجية معادية - قديمة جديدة - تستهدف تفتيت الأمة العربية في سياقها العام، كما تستهدف تفتيت كل وطن على حدة، هذا صحيح ومؤكد، بيد أن هذه المخططات لا يمكن أن تفعل فعلها إلا من خلال الثغرات والشقوق والتصدعات في داخل الكيان العربي العام، أي التصدعات القابلة للاختراق والاقتحام والطرق والدق والتطويع. فالقاعدة العلمية تقول: «إن كل قوة لا يمكن أن تؤدي فعلها إلا إذا وجدت جهازا قابلا». والانقسامات والخلافات العربية هي (الجهاز القابل) لمخططات التفريق والتشتيت والتمزيق.

ثم، بإعمال منهج (تحليل المضمون)، تبين أن الخطاب انتظم مضامين عديدة ذات قيمة عالية، نرغب في أن يشترك القارئ معنا في تأملها واستيعابها:

1- مضمون أن (الإنسان وكرامته) أغلى وأعظم وأهم من كل شيء، بما في ذلك الاقتصاد نفسه (قمة الكويت اقتصادية في المقام الأول حسب الإعداد المسبق)، ومع ذلك فقد رفع الخطاب الذي بين أيدينا (قيمة الإنسان) فوق قيمة الاقتصاد. لنقرأ: «نأمل ومعنا شعوبنا في نتائج واضحة لهذه القمة الاقتصادية، لكن الاقتصاد مهما كانت أهميته لا يمكن أن يساوي الحياة نفسها، ولا الكرامة التي لا تطيب الحياة دونها». ومما يندرج في هذا المفهوم الإنساني المتقدم أن الملك - بعد أن أعلن تبرع المملكة بمليار دولار لإعادة إعمار غزة - قال: «إن قطرة واحدة من الدم الفلسطيني أغلى من كنوز الأرض وما احتوت عليه».

2- مضمون الإشارة الذكية - والنابهة جدا - إلى (الأيدلوجية) التي تحرك الصهيونيين وتدفعهم إلى ارتكاب المجازر وإيقاد المحارق، وهي إشارة تضمنت أيضا الرد الصاعق القوي على استغلال الدين والغلو فيه والطغيان باسمه. قال: «لقد نسي القتلة أن التوراة قالت: (العين بالعين)، ولم تقل: إن العين بمدينة كاملة من العيون»! والحق أن توراة موسى عليه السلام بريئة من فتاوى الحاخامات الكذبة التي تجيز قتل الأطفال بنصوص (توراتية)!

3- مضمون أن النقد الذاتي في الخطاب مضاد - بوعي ودقة ومسؤولية - لخطيئة (جَلد الذات)، وهي خطيئة يرتكبها عرب، من كل المستويات. نعم، إن النقد الذاتي في هذا الخطاب فتح أمام الذات آفاق الاستبشار والأمل والتماسك والعمل والنهوض، فنقرأ، بعد النقد الذاتي مباشرة: «لقد مضى ما مضى، واليوم أناشدكم بالله جل جلاله، ثم باسم الشهداء من أطفالنا ونسائنا وشيوخنا في غزة، باسم الدم المسفوح ظلما وعدوانا على أرضنا في فلسطين المحتلة الغالية، باسم الكرامة والإباء، باسم شعوبنا، أناشدكم ونفسي أن نكون أكبر من جراحنا، وأن نسمو على خلافاتنا، وأن نهزم ظنون أعدائنا بنا، ونقف موقفا مشرفا يذكرنا به التاريخ، وتفخر به أمتنا. ومن هنا اسمحوا لي أن أعلن باسمنا جميعا أننا تجاوزنا مرحلة الخلاف، وفتحنا أبواب الأخوة العربية والوحدة لكل العرب دون استثناء ولا تحفظ، وأننا سنواجه المستقبل - بإذن الله - نابذين خلافاتنا، صفا واحدا كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، مستشهدين بقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)».

لهذا كله يمكن القول إن السعودية (تفردت) في قمة الكويت بهذا الموقف، الذي اتسم بالدعوة إلى التصالح والوفاق، وبالدعوة إلى سحب شحنات التوتر والضغن والتربص وتبادل الاتهامات عن تحميل (المسؤولية)، فـ (الكل مسؤول) كما ورد في الخطاب. وهذا التفرد من المستطاع وصفه بأنه هو (السياسة السعودية الطبيعية المعتمدة) تجاه الوطن العربي وقضاياه، ولهذا التفرد معطيات موضوعية، منها: شخصية المملكة المستقلة، ومصلحتها الوطنية، ومكانتها العربية والإسلامية والدولية. وبلد هذه خصائصه لا يستطيع أن يكون (صدى) للآخرين - أقارب كانوا أم أباعد - والساحة العربية محتاجة دوما إلى مثل هذا الدور، ولا سيما عندما يشتد الكرب، ويضعف العقل والمسؤولية، ويصبح الشأن العربي العام سوقا للمضاربات والمزايدات.

ولقد اكترث بالخطاب مسؤولون كثر، عرب وغير عرب، كما اكترث به الرأي العام العربي الإسلامي. ومصدر الاكتراث هو (المكانة الجليلة) التي تتبوأها المملكة في وعي هؤلاء وتقديرهم وحساباتهم.

ولئن كان هذا الخطاب من أبرز وأنفس حصاد قمة الكويت، فإن المسؤولية تجاه مضامينه ومقاصده تتمثل في:

أ- البسط والتأصيل والتثبيت الدبلوماسي والسياسي له، من خلال قنوات وأساليب تناسب هذا المستوى.

ب- تقديم خدمة فكرية وإعلامية جادة وراقية ومثابرة لمضامين الخطاب ومفاهيمه من خلال التحليل و(الفلسفة البعدية)، بالمقال والدراسة والندوة الفضائية، على سبيل المثال.

وإذا عجز الإعلام عن ذلك فإن أدنى خدمة يقدمها هي أن يكف عن التشويش على مضامين الخطاب، سواء كان التشويش بالغباء الشديد، أو بالهوى الجامح.