أوباما رئيس مجلس إدارة شركة العالم الجديد

TT

عندما كان الرئيس الرابع والأربعون، باراك حسين أوباما، يؤدي يمين الولاء الدستوري، في حفل تنصيبه الثلاثاء الماضي، غالب أكثر من مليونين صقيع ستة درجات تحت الصفر، ليحكوا لأحفادهم أنهم كانوا شهودا على كتابة ديمقراطيتهم العظيمة صفحة جديدة في التاريخ، ونقلت الكاميرات دموع التأثر لأغلبهم.

خارج أميركا؛ حسد الملايين، في تعطشهم لمثل هذه الحرية والديمقراطية، شعبها.

قبل نهاية خطابه انعطف أوباما نحو أهم يوم في العام الأول لأميركا كأمة مستقلة، مقلدا، بل متفوقا في بلاغته على مثَل طفولته الأعلى صاحب الحلم (في خطبته عام 1963) الذي تحقق بعد 48 عاما، الراعي مارتن لوثر كينغ (1929-1968)، استحوذ على قلوب الملايين حول العالم بقدرة الروح الأميركية علي مواجهة الصعاب باتحاد أبنائها «في أكثر الأشهر برودة، تكاتفت فئة قليلة من الوطنيين حول جمر يخبوا بمعسكرهم على ضفة نهر مثلج.. العاصمة خلت من سكانها، والجليد مخضب بالدم.. والعدو أمامهم في أحرج مراحل ثورة استقلالنا». ثم اتجه مباشرا في الخطاب الذي ألقاه من الذاكرة إلى استعارة كلمات جورج واشنطون (1723-1799) – مثلما سجلت في كتيب توماس بين (1737-1809)- مخاطبا الفئة القليلة قبل معركة ديليوير عام 1776 المصيرية أمام جيش إمبراطوري يفوقهم عددا: «دعنا نخبر عالم المستقبل أنه في عمق عتمة الشتاء، عندما لا يبقى على قيد الحياة سوى الأمل والخصال الحميدة.. أن المدينة والبلاد كلها هبت متوحدة لتواجه الخطر».

وبينما انسابت دموع الملايين من المقهورين حول العالم، لمشهد انتفاض أميركا من عثرتها، والبحث في وجدانها عن قيم مؤسسيها، لبناء حلم الإنسان بمنح الفرصة لمئات الآلاف من مختلف الألوان والأجناس والعقائد، باحثين عن استعادة إنسانيتهم، كانت حكومات ديكتاتورية، كالصين، تحجب إشارة البث عن مواطنيها، ثم تطلقها بعد استئصال مقاطع من الخطبة، خشية انتقال عدوى الديمقراطية وحرية تغيير الحكومة بالانتخاب، إلى مواطنيها.

ركز أوباما على التحديات والصعوبات، في حالة اقتصادية لا تسمح بقرب تحقيق الأحلام، حتى تتحول دموع فرحة تحقيق حلم مارتن لوثر كينغ إلى دموع خيبة الأمل؛ وصندوق الاقتراع على مسافة ثلاث سنوات وعشرة أشهر فقط لا غير.

انتخاب أوباما أكثر من مجرد تصحيح وجدان الأمة لا شعوريا لمسارها، فأميركا تخوض حربين، وتواجه تدهور شعبيتها عالميا، والتحدي الاقتصادي الذي يشكل الخطر الأكبر اليوم، جعلها تنكمش ذاتيا، وتبحث في أعماق قلبها عن القيم والمبادئ الأساسية التي ضحى أبطال 1776 من أجلها، لتعثر على الرجل المناسب للمرحلة، بصرف النظر عن لون بشرته، وأصوله العرقية، وأصله المتواضع، واسمه الأوسط «حسين»، مع الأخذ في الاعتبار أن جروح أميركا لا تزال تنزف من عدوان القاعدة باسم الإسلام في سبتمبر 2001.

وعلى الرغم من بروباغندا اليسار والقومجية وقوى الفاشية والشمولية - وأخطاء السياسة الخارجية الأمريكية – فإن الحقائق التاريخية تؤكد أنه لولا تضحيات أحفاد واشنطن بفلذات أكبادهم على شواطئ أوروبا والشمال الأفريقي من أجل دحر النازية، لما كان قارئ «الشرق الأوسط» يجد بن يديه صحيفة تتعدد فيها الآراء بحرية من أركان الدنيا الأربع، التي تتمتع اليوم بالحرية والديمقراطية.

التاريخ لم يجعل من أوباما زعيما للعالم الحر فحسب، بل رئيس مجلس إدارة شركة العالم الجديد، وحملة الأسهم في العالم كله، في جزر ديمقراطية قديمة أو وليدة أو مستعادة، في محيط الديكتاتوريات.

أحرار الشعب العراقي الصامد أمام ضربات الإرهاب، وشظايا أطماع القوي الخارجية، ليحتفظ بحرية ما بعد الطاغوت، في تغير حكومته عبر صناديق الاقتراع، أكثر العرب امتلاكا لأسهم شركة العالم الجديد.

الحركات والتيارات الديمقراطية العلنية أو المناضلة سلميا (وأكرر سلميا) في الخفاء، أو في فضاء الإنترنت بسبب قمع الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية لحرية الاجتماعات وإصدار الصحف، ومنعهم من الظهور في التلفزيونات الحكومية، كلهم مساهمون في شركة الحرية. الأقلام والأصوات الحرة، والفنانات والفنانون الأحرار، رافضو الرقابة، وملايين النساء المبدعات المقاومات لفرض نمط حياة ومظهر وقيود الشمولية عليهن، كلهم وكلهن أصحاب أسهم شركة أوباما العالمية. عبارة أوباما عن تحديات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا وحماية البيئة، ستترجم إلى خلق مئات الآلاف من وظائف «الياقات الخضراء» (الياقات البيضاء تعني المهن العليا، والزرقاء تعني الطبقة العاملة) في مجال البيئة، بتوظيف قدرات أميركا العلمية للتوسع في الطاقة النووية والبحث عن مصادر للطاقة من الشمس والرياح وأمواج البحر، لتقليل الاعتماد على بترول الشرق الأوسط والخليج.

ساعات أوباما الأولى في المكتب البيضاوي كانت انقلابا على سياسة سابقه الرئيس جورج بوش. تحسين صورة أميركا، واجتثاث بروباغندا الجهاديين والفاشيين كالقاعدة وأشباهها والأنظمة الشمولية، هو هدف ثانوي في استراتيحية أوباما، الذي كرر أن المغالاة الأمنية في مكافحة الإرهاب تناقض أسس الدستور الأميركي في حرية التعبير والتنقل والاختيار.

في يومه الأول أمر بتجميد المحكمة العسكرية في معتقل غوانتانامو، الذي وقع قرار إغلاقه في اليوم الثاني. فالمحامي أوباما يري عظمة أميركا في احترام القانون وسيادته قبل القوة العسكرية (بدليل إعادته قسم الولاء الدستوري يوم الأربعاء لمجرد عثرة لسانه في جملة واحدة في أداء اليمين يوم التنصيب، حتى لا يشكك أحد في قانونية رئاسته).

فالإرهابي أمام القانون هو مجرم عادي، ومن غير الحكمة إضفاء أية صفة سياسية أخري عليه تميزه عن قاطع طريق أو قاتل، ولا لزوم لقوانين الطوارئ.

أول رئيس من أصل أفريقي يريد أميركا القوة الذكيةsmart power بتذكيره المؤرخين المعاصرين أن الفاشية والنازية والشيوعية «لم تهزم بالدبابات والصواريخ وحدها، بل بالتحالفات القوية، والإيمان المستمر بالمبادئ». واتجه للعالم بقوله إن «قوة أميركا وحدها غير كافية لحمايتها» أي أن تكون قدوة ونموذجا وقائدة للتحالفات، وركز كثيرا في هذه النقطة على تركيبة «الموزايك» الأميركية من مختلف الأعراق والأديان.

في يوم عمله الأول خابر تليفونيا زعماء بلدان الشرق الأوسط لتذكيرهم بأن أميركا «صديق لكل بلد.»

ووجه في خطابه النداء للعالم الإسلامي – ومعظمه ديكتاتوريات – «إذا أردتم فرد قبضتكم للمصافحة بدلا من توجيه اللكمة» فهو على استعداد للمصافحة. فرد القبضة للمصافحة والعمل من أجل السلام، يعني أن يكف إعلام الديكتاتوريات الموجه عن حشو أدمغة الجماهير بحملة العداء والكراهية غير المفهومة لأميركا.

ونرجوا ألا تخشي ديكتاتوريات المنطقة من أن توجيه إعلامها لنقل الحقائق بحيادية سيتيح الفرصة للتيارات التي تحمل أسهم شركة الحرية التي يترأس أوباما مجلس إدارتها، باستثمار هذه الأسهم في السوق السياسي المحلي، وبالتالي تطرد عملة الحرية والديمقراطية الجيدة عملة الديكتاتورية «الفالصو» من السوق، فتظل قابضة يدها للتلاكم بدل المصافحة!