ليلى شهيد.. صوت عربي في أوروبا

TT

منذ أن شرعت الصهيونية العالمية في توطين اليهود في فلسطين، تمهيدا لقيام دولة إسرائيل، والإعلام واحد من أسلحتها المؤثرة في صراعها المصيري والطويل مع الأمة العربية.

وإذا كانت الحروب التي شنتها إسرائيل على العرب قد غيرت وجه المنطقة وأفرزت حقائق جغرافية وسياسية جديدة، فإن حربها الإعلامية عليهم لم تكن يوما، أقل ضراوة، وإمعانا في الإيذاء وإثارة للكره العنصري ضدهم.

ولم يبرز الإعلام كقوة تحدد مواقف الشعوب من الأحداث، إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، عندما بدأت ثورة الاتصالات تهيئ للإنسان، عبر إنجازاتها التقنية المدهشة، من وسائل التأثر والتأثير، ما جعله عرضة لإفرازاتها من الشعارات، والضغط الإعلامي المتواصل، كي تغير قناعاته أو تغرس فيه قناعات جديدة، كانت غريبة عليه.

ولأن الصراع بين العرب، أصحاب الأرض، واليهود، النازحين الطامعين في الأرض، لم يصل صداه إلى العالم إلا مع أواسط أعوام الأربعينات من القرن الماضي، عندما بدأ القتال بين المستوطنين اليهود وعرب فلسطين، فقد ظل هذا العالم في منأى عن الإحاطة بحقيقة ما يجري في فلسطين، من هجمة استيطانية اعتمدت الإرهاب والترويع والتهجير القسري للفلسطينيين العرب، واحدة من أدوات الحسم في إقامة دولة إسرائيل.

وعندما حلت كارثة عام 1948م لم يدرك العالم أبعاد هذه الكارثة التي حلت بشعب فلسطين. فقد عمدت المنظمات الصهيونية إلى التعتيم عليها، وإلباسها ثوب الولادة الشرعية لإسرائيل. ساعدها في ذك عاملان: عجز إعلامي عربي مطلق، وتواضع في قدرة الإعلام الدولي على النقل الشامل والسريع للأحداث.

لقد شاهدت مساء يوم الأحد 18 يناير 2009م السيدة ليلى شهيد، ممثلة السلطة الفلسطينية لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، على القناة الثانية من التلفزيون الفرنسي، في حوار عن الأحداث الجارية في غزة. وكان قد سبقها في نفس الليلية وعلى نفس القناة سفير إسرائيل في باريس.

ليلى شهيد سيدة فلسطينية مثقفة، اختارها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كي تمثل منظمة التحرير في فرنسا. إنها نموذج للمرأة العربية المتماسكة، تملك قدرة بارعة على الحوار، تساندها إجادة راقية للغة الفرنسية، وشعور قومي لا يضعفه توتر في التعاطي مع الآخرين. إذا تحدثت في الإذاعة والتلفزيون عن قضية فلسطين تكاد تتوسل إليها أن تسترسل وتواصل الحديث. وهي تنهض، منذ مطلع أعوام التسعينات، بهذه المهمة القومية، وحضورها الإعلامي في تألق مستمر. وهي في ذلك تكاد تكون الصوت العربي القوي الوحيد في أوروبا.

لم تدخل ليلى شهيد مع الأوساط الإعلامية في فرنسا، والعديد منها موال في مواقفه لإسرائيل، في عراك عقدي يخرج القضية من مضمونها القومي والإنساني العادل، ليجعل منها حربا دينية بين اليهود والمسلمين. ولا تدافع عن حقائق تاريخية تجاوزتها الأحداث، وأصبح الحديث فيها قولا يتكرر لا يصله بالحاضر رابط مقبول. إنها واقعية في طرحها، تدافع باسم السلطة الفلسطينية عن مشروع الدولتين، وتهاجم سياسة إسرائيل في مراوغتها الدائمة والالتفاف على هذا المشروع الذي يكاد يجمع العالم عليه، وعلى حتمية إنجازه من أجل السلام. وهي في تناولها لموضوع الدولتين تفضح سياسة المخادعة في مواقف إسرائيل، وتنكرها حتى للاتفاقيات التي أبرمتها مع السلطة الفلسطينية، كاتفاق أوسلو، وإفراغ هذا الاتفاق من مبررات إبرامه، رغم أنه اتفاق القوي مع الضعيف.

في حوارها مع التلفزيون الفرنسي، تجلت وتألقت، وهي تجيب على أسئلة الصحافيين عشية قرار إسرائيل وقف عدوانها على غزة. لم تنفعل، وبقيت على هدوئها رغم ما تثيره المناسبة من غضب وقهر في النفوس. كانت لديها رسالة تسعى لإيصالها إلى الملايين من المشاهدين، وهي تعلم أنه لن يتحقق لها ذلك وهي في حال من الانفعال. وظلت على مدى نصف ساعة تصل الحجة بالحجة وتعري ما أتى عليه سفير إسرائيل من لغو باطل، ومكابرة وقحة، في تبرير ما أقدمت عليه حكومته من جريمة وحشية ضد شعب أعزل محاصر.

سفير إسرائيل يدافع عن جريمة حكومته، وفي أعماقه شعور نفسي بالانهزام؛ هزمته الضجة العالمية العارمة، وما اقترن بها من غضب واستنكار من بوليفيا حتى اليابان، ومن النرويج حتى كينيا، لذلك جاء أداؤه ترديدا لعبارة جرت على لسانه دون انقطاع، وهي أن إسرائيل التزمت بضبط النفس وصبرت ثمانية أعوام! ثمانية أعوام! ثمانية أعوام! على صواريخ حماس!

ولم يقل سفير إسرائيل كم إسرائيليا قتلته تلك الصواريخ على مدى ثمانية أعوام!

وعندما قالت مندوبة جريدة «لوموند» لسفير إسرائيل في ذلك الحوار: «إن رد فعلكم كان عنيفا وغير متوازن مع صواريخ حماس، وإنكم استعملتم أسلحة محرمة ضد النساء والأطفال»، كاد يلوذ بالصمت لأنه لم يجد ما يقول.. كان مهزوما داخليا، كما كان أيضا العديد من قادة إسرائيل. فقد كان الغضب العالمي على مذبحة غزة أكبر من أن يستهين به عتاة الكره العنصري في إسرائيل.

وفي حوارها مع التلفزيون الفرنسي لم تكن ليلى شهيد في حاجة إلى الحديث عما جرى لغزة. فقد تكفلت الفضائيات في العالم بهذه المهمة، ونقلت ما يفزع من مشاهد القتل والتدمير، الذي لا يعبأ بما يدمر ومن يدمر. بل تولت السيدة شهيد الحديث عن البواعث الكامنة وراء اجتياح غزة، وأتت على كل ما ساقه سفير إسرائيل من تبرير، لجريمة تلاحقها لعنات الأرض والسماء.

لم تكن الحرب على غزة، كما ادعى قادة إسرائيل، تستهدف القضاء على مصادر إطلاق الصواريخ، فهم يعلمون، والعالم معهم يعلم، أن تلك الصواريخ لم تكن أكثر من صواريخ «ضئيلة المفعول» لا قيمة لها في موازين القتال، وأن الصواريخ الحقيقة هي تلك التي دمرت غزة وأشاعت الموت والأحزان في منازلها، وأن الأعوام الثمانية من «ضبط النفس والصبر» كما قال سفير إسرائيل، ليست إلا تسويقا مفضوحا لعدوان كان يعد له من زمن.

ولم تستهدف إسرائيل أيضا في حربها على غزة حركة حماس، بل إن في الإبقاء على حركة حماس في صراع علني محزن مع منظمة التحرير الفلسطينية، واحد من أهداف إسرائيل لإضعاف العمل الفلسطيني.

وإن إطلاق تلك الصواريخ «الضئيلة المفعول» لم تكن إلا صرخة من صرخات الاستغاثة من حصار إسرائيلي جائر، قاهر، مذل، مهين. وإن تلك الصواريخ ربما كانت وسيلتهم الوحيدة لإسماع العالم صوت شعب يائس مستغيث.

لقد أقدمت إسرائيل على حربها الوحشية على غزة، على مشهد من العالم وذهوله. ولم تعبأ بقرار مجلس الأمن الداعي إلى وقف تلك المجزرة، بل أمعنت في القتل والتدمير استخفافا بكل الضغوط الدولية عليها. كان لها في حربها على غزة حسابات أخرى غير تدمير الصواريخ، لعل في مقدمتها تصميمها على إحراج الدول العربية وإظهارها أمام شعوبها بمظهر العاجز عن نجدة شعب عربي يذبح، وإثارة تلك الشعوب على حكامها، واستعداؤها عليهم، وإيجاد شعور من انعدام الثقة فيهم والنقمة عليهم.

والمواطن العربي، في ذروة غضبه وإحباطه، لا يفهم إلا أمرا واحدا، هو أن قتل الفلسطيني العربي هو قتل له، وأن إذلال الفلسطيني العربي في أرضه هو إذلال له، وأنه يحمل عبء الظلم والمهانة كما يحملها كل فلسطيني.

كما أنه لا يفهم كيف يمكن لإسرائيل أن تواصل عربدتها، مشحونة بغرور القدرة والتفوق العسكري، والجامعة العربية بدولها العشرين في موقف العاجز الحائر في ما يفعل!

وفي تساؤلاته المقهورة الحزينة، يظل المواطن العربي البسيط ضحية للتناقضات العربية والمزايدات على حماسه وانفعالاته.

أعود إلى الحديث عن قوة الإعلام في صنع مواقف الشعوب.

لقد جاءت مظاهرات الغضب والتنديد والاستنكار التي اجتاحت العالم محملة بالدلالات الهامة على وعي شعبي عالمي متزايد بالطبيعة العدوانية لدولة إسرائيل، وعلى انفضاح دعاوى التباهي بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة جميع حكامها مستبدون.

ولعل أهم ما حملته هذه الانتفاضة في الرأي العام العالمي من دلالات، هو أن الإعلام العالمي لم يعد في قبضة إسرائيل وارتهانها له، كما كان عليه الحال خلال عقود طويلة، وأن الحرية المتنامية للإعلام، وانعتاقه من سياسات الانحياز التي كانت تملى عليه، والتنافس المهني الشريف، ومقارنة الشعوب لإعلامها بما تراه من إعلام آخر، واقتحام الفضائيات للإنسان حتى في أكثر الأماكن عزلة في هذا الكون، قد جعل الإعلام في خدمة قضايا سياسية وإنسانية عادلة مثل قضية فلسطين.

ارتكبت إسرائيل مذابح في دير ياسين، وفي قرى فلسطينية أخرى، واجتاحت في صيف عام 1982م لبنان، وحاصرت بيروت، ودمرت الآلاف من المنازل، وقتلت عشرات الآلاف من السكان... ولم يعبأ العالم كثيرا بما فعلته إسرائيل، فقد جاءت مشاهد تلك الأحداث من خلال وسائل الإعلام الموالية لإسرائيل، ورؤية إسرائيل لتلك الأحداث إجراء وقائيا لدفاعها المشروع عن وجودها!

لقد تغير العالم، وازداد وعي الشعوب وقدرتها على المساءلة والحساب، ولم يعد إعلام أعوام الثمانينات كإعلام اليوم، الذي كاد يزلزل العالم غضبا على إسرائيل.

لماذا أتحدث عن ليلى شهيد؟ لأن في حضورها الإعلامي الذكي الشجاع المتواصل، استدراكا لغياب إعلامي عربي معيب في أوروبا. ويكاد يحملني الاعتقاد إلى القول بأن السيدة ليلى شهيد، ربما كانت الشخصية الدبلوماسية العربية الوحيدة، التي انبرت بشجاعة واقتدار، للحديث عنه للرأي العام الفرنسي، ومن خلاله للرأي العالمي، عن مأساة غزة. ولا يعني هذا أن الدبلوماسيين العرب في أوروبا هم أقل منها تفاعلا مع مأساة غزة. ولأن التصدي للدفاع عن القضايا العربية في وسائل الإعلام الغربية يتطلب العلم والقدرة والثقة والمران، فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

أحييك يا ليلى، فكم نحن في حاجة إلى أمثالك!

* وزير سعودي سابق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية.