.. ضَـرْبةُ مُعلّـــم

TT

الخطوة العظيمة والجبارة التي أقدم عليها الملك عبد الله بن عبد العزيز في بداية انعقاد قمة الكويت الأخيرة، والتي انتشلت الوضع العربي المتردي من واقع الانقسام والاختلاف وذهاب الريح إلى أُفق واعد جديد، جاءت مفاجئة للأشقاء «العجم» قبل أن تفاجئ العرب، فالإيرانيون كانوا قد وضعوا آخر اللمسات على حساباتهم، حيث قاموا بكل ما قاموا به وبخاصة تجاه القضية الفلسطينية، من أجل استقبال عهد الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما بواقع لا يستطيع إلا التعامل معه وأخذه بعين الاعتبار في مجال تعاطيه الموعود مع أزمة الشرق الأوسط المستفحلة.

.. إنها ضربة معلم، فإيران التي رفع رئيسها إشارة النصر فوق قمة الدوحة كانت قد تيقنت، في ضوء ما جرى في هذه القمة وفي ضوء الأوضاع العربية المتردية، أن الرقم العربي في معادلة الشرق الأوسط الجديدة قد شطب نهائيا، وأن الانقسام الذي اتخذ طابع أن هناك معسكر «فسطاط الممانعة» التابع لها والذي تشكل فيه وضعية العمود الأوسط، وأن هناك معسكر الاعتدال سوف يتعزز ويتعمق في قمة الكويت التي كان قال فيها المزايدون عشية انعقادها أكثر مما قاله مالك في الخمر.

لكن كل هذه التقديرات والحسابات الإيرانية قد تبددت في اللحظة التي أعلن فيها الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة الكويت أنه عفا الله عما سلف، وأنه لا خلافات عربية بعد اليوم، وأنه لا يجوز أن يبقى العرب منقسمين وممزقين في هذه المرحلة الصعبة والخطيرة، بينما القضية الفلسطينية تقف على مفترق الطرق، هذا الذي باتت تقف عليه وتواجه «استحقاقا» لم تواجهه من قبل.

كانت إيران قبل هذه الخطوة المفاجئة التي أقدم عليها العاهل السعودي في قمة الكويت الأخيرة، متيقنة من أنها قد استكملت تهيئة المسرح الشرق الأوسطي لاستقبال الإدارة الأميركية الجديدة، ومتأكدة من أن كل شيء بعد قمة الدوحة الانقسامية سيجري على ما يرام، وأنه لن يكون للعرب أيُّ مكان على هذا المسرح وأن اللاعبين سيكونون ثلاثة فقط، أي دولة الولي الفقيه وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

وحقيقة، وهذا بات معروفا وواضحا وليس بحاجة إلى حشد المزيد من الأدلة والبراهين، أن إيران التي من المفترض أنها شقيقة وجارة عزيزة وتشكل عمقا للعرب والأمة العربية، قد دأبت في مرحلة ما بعد انتصار ثورتها الخمينية كما كانت في عهد الشاه السابق محمد رضا بهلوي على السعي الحثيث والدؤوب لإخضاع الوضع العربي لحساباتها وتطلعاتها الإقليمية، وليكون تقاسم النفوذ في هذه المنطقة بينها وبين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

إنه تاريخ طويل فبعد انتصار الثورة الخمينية التي كان يجب أن تجعل العمق العربي والفلسطيني يصل إلى أصفهان، كما قال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ذات يوم، بادرت إيران في ضوء تغلب خطِّ المنادين بتصدير ثورتها إلى الدول العربية المجاورة والبعيدة إلى التدخل تدخلا سافرا في شؤون العرب الداخلية وإلى مد يدها حتى إلى إسرائيل، وهذا كان في ذروة حرب الثمانية أعوام مع العراق، وبالطبع إلى الولايات المتحدة لفرض نفسها كرقم رئيسي في معادلة هذه المنطقة، ولتحقيق حلم استعادة نفوذ فارس القديمة في الإقليم كله.

ولذلك ومن أجل هذا، فإن إيران لم تتردد في التنسيق مع الولايات المتحدة والتعاون معها للتخلص من العراق السابق واستبداله بعراق جديد، هو هذا العراق القائم الذي لها فيه كل هذا النفوذ الذي لا يضاهيه أي نفوذ آخر، وأنها وبخاصة بعد انكسار الحلقة العراقية، لجأت إلى تصعيد تدخلها في الشؤون الداخلية لكل الدول العربية وإقامة رؤوس جسور لهذا التدخل في لبنان من خلال حزب الله، وفي فلسطين من خلال حركة «حماس»، وفي اليمن من خلال حركة الحوثي.

لقد أرادت إيران أن تكون حرب غزة أداة لتهميش مصر ولإلغاء دورها الإقليمي، ولقد دفعت الإخوان المسلمين لتعميم الفوضى في الدول العربية لاستقبال الإدارة الأميركية بواقع عربي ينشغل بنفسه ويفتقد إلى روح المبادرة، ولهذا فإنها قد بادرت إلى تجييش كل أطراف حلفها الذي عنوانه «فسطاط الممانعة» لإفشال المبادرة المصرية التي وقفت خلفها المملكة العربية السعودية ومعها الأردن والإمارات العربية المتحدة ودول عربية أخرى، لتنفرد بوضع الشرق الأوسط ولتنتظر باراك أوباما على خشبة مسرح لا تقف فوقه إلا هي وإسرائيل، وهذا هو سبب عقد قمة الدوحة بالصورة التي انعقدت بها وبالمواقف التي اتخذت خلال وبعد انعقادها.

وبهذا فقد ساد اعتقاد لدى الإيرانيين يصل حدود اليقين، بأن قمة الكويت ستستكمل ما لم يُستكمل من الانقسامات العربية، وأن العرب سيخرجون منها أكثر تشرذما وتمزقا مما كانوا عليه عند الدخول إليها، وأن أهداف ومخططات إيران قد تحققت كلها وحالفها النجاح، وأن باراك أوباما عندما سيلتفت إلى الشرق الأوسط بعد احتفالات تنصيبه الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة لن يرى إلا عمامة الولي الفقيه وقلنسوة بنيامين نتنياهو الذي تشير بعض التقديرات إلى أنه سيكون الفائز في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة.

لم يكن الإيرانيون يتوقعون أن العملاق السعودي سيتحرك لإنقاذ الوضع العربي في اللحظة المناسبة وأن الملك عبد الله بن عبد العزيز سيتسامى فوق الجراحات والإساءات وسيبادر إلى لملمة الحالة العربية المتردية، ولهذا فإن المتوقع أنهم سيقومون بهجوم معاكس سريع، وأنهم سيستغلون هذا الوضع الفلسطيني المزري لاستعادة زمام المبادرة، فالأيام القليلة المقبلة ستكون حاسمة، وعلى العرب أن يحافظوا على زخم الخطوة التي اتخذت في قمة الكويت، وأن عليهم أن يسدوا كل المنافذ أمام الرياح الإيرانية التي ستكون عاتية هذه المرة.

إنها ضربة معلم.. وإن المؤكد أن العاهل السعودي عندما بادر بالانعطاف بالوضع العربي كل هذه الانعطافة الاستراتيجية كان يضع في اعتباره كل هذه الحقائق الآنفة الذكر، وأنه كان يريد أن يرى الرئيس الأميركي الجديد عندما سيلتفت إلى الشرق الأوسط أن الرقم العربي رئيسي وأساسي في معادلة هذه المنطقة، وأنه ليس بإمكان أي كان أن يرسم خريطة هذا الإقليم في غياب العرب وعلى حسابهم، وأنه من المستحيل الاستفراد بالفلسطينيين وتحويل قضيتهم إلى مجرد رقم للبيع والشراء في سوق لا وجود فيها إلا للإيرانيين والإسرائيليين والأميركيين.

وحتى بالنسبة لقول العاهل السعودي إنه على إسرائيل أن تدرك أن الخيار بين الحرب والسلام لن يكون مفتوحا في كل وقت، وأن مبادرة السلام العربية المطروحة على الطاولة اليوم لن تبقى على الطاولة إلى الأبد، فإن المقصود هو الإدارة الأميركية الجديدة وهو الرئيس باراك أوباما الذي عليه أن يدرك ومنذ اللحظة الأولى أنه أمام العرب خيار آخر إن لم يحالف النجاح خيار الحلول السلمية.

إنها بداية مرحلة جديدة، وإن المؤكد أن الإنجاز الذي تحقق في قمة الكويت سيرتطم بعقبات كثيرة، ولهذا فإنه على العرب كلهم المعتدلين والممانعين، أن يدركوا أن الإيرانيين لن يلقوا السلاح، وأن الإسرائيليين لن يسكتوا على ما تحقق، وأن الوضع الفلسطيني الهش سيبقى يشكل ثغرة في الجدار العربي، وأن كل هذا الذي جرى في غزة بعد نجاح المبادرة المصرية في وقف العدوان، يشير إلى أن إيران ازدادت إصرارا على مواصلة تدخلها السافر في الشؤون الفلسطينية والعربية الداخلية.

إن معيار حقيقة مواقف الذين لا زالوا يعتبرون أنفسهم تحالف «فسطاط الممانعة» مما جرى في قمة الكويت، هو الوضع الفلسطيني فإن هم تمسكوا بوهم أن «حماس» قد حققت انتصارا مدويا على إسرائيل في الحرب الأخيرة، يجب أن تقطف ثمنه موقعا مميزا في المعادلة الفلسطينية الجديدة المفترضة، فإنهم سيثبتون أنهم اضطروا اضطرارا إلى تظاهرة تبادل تبويس اللحى على هامش هذه القمة العربية الأخيرة، وأنهم ما زالوا يلعبون في الملعب الإيراني وما زالوا يشكلون مجرد «براغ» صغيرة في الآلة الإيرانية المتوجة بعمامة الولي الفقيه السوداء!