خطاب.. وفرصة

TT

الحالة النفسية، التي تسبق متابعي القمم العربية باتت معروفة، والإحباط المسبق أصبح شيئا أساسيا قبل موعد انطلاق أي قمة عربية جديدة، ولذلك لم يكن أمرا غريبا وخارجا عن المألوف، حجم القلق والريبة والشك، الذي أصاب انطلاق القمة العربية، التي ختمت أعمالها مؤخرا في الكويت، فهي جاءت وسط بحر من الخلافات والانشقاق العربي، الذي كان يطغى على كل المواضيع، وكل المسائل المطروحة أمام القادة العرب. كل المؤشرات كانت تقول إن القمة الاقتصادية بالكويت، كان خطر الفشل وازدياد رقعة التشتت والتقسيم يحيط بها من كل اتجاه. ولذلك كانت الضربة الاستباقية، التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، في منتهى الحكمة والذكاء، لأنه بإقدامه على طي صفحة الخلافات العربية البينية، وتقديمه لمليار دولار للمساهمة في إعادة إعمار غزة بعد تدميرها من قبل آلة الحرب الإسرائيلية المسعورة، وهو مبلغ يوازي نصف القيمة المقدرة لإنجاز مهمة إعادة الإعمار الأليمة والصعبة. ولم يكن أكثر المتفائلين يتوقع خطابا بهذه البلاغة والوضوح والمباشرة، ويتبعها لقاء مشترك مع الأطراف المعنية بالخلافات المعروفة. خطاب الملك عبد الله ببساطة شديدة غير أرضية اللعبة، وأعاد كتابة المواقف العربية من جديد. إسرائيل كانت تراهن وبكل قوة، على ازدياد «هوة» الخلاف العربي، وكانت تضغط بكل بعنف لتكريس ذهنية فصل «غزة» عن سائر الدولة الفلسطينية، (وساعدها في مخططها الخبيث الانقسام الأحمق بين الأطراف الفلسطينية نفسها). خطاب خادم الحرمين الشريفين من المفروض أن يكون فرصة جديدة للبناء والتحرك المشترك، لأن البديل أمام العرب هو إسرائيل، وقطاع غزة يقذف إلى الأحضان المصرية، وضفة غربية ترمى في أحضان الأردن، نعم هكذا هي الخيارات، وهذا هو الواقع الذي على العرب التعامل معه والتصدي له. لم تعد هناك خيارات سهلة، ولم يعد هناك وقت كبير من الممكن الرهان عليه. تحكيم العقل قبل العاطفة، وتغليب الواقع على الوهم، ومراجعة النفس قبل الشيطان. هناك أياد تمتد للمساعدة والعون والبناء، وهناك أيد للتصفيق والإشارة والشعارات، وشتان الفرق بين الموقف الأول والثاني. هناك سنن كونية لله في الأرض، وهناك أمور يجب أن تعطى وتمنح المساحة الكافية والاهتمام الكافي لتحتل مكانة الأولويات. فهناك الأهم ثم المهم. وأمة بلا تعليم ولا مجار ولا مستشفى، لا تستطيع تحرير أرض. القوة يجب أن تكون مستمدة من الكرامة، والعيش بكرامة له أسس ومتطلبات، ومن يسعى إلى إغفال ذلك فإنه يسعى لمآرب شخصية وخاصة، ولا علاقة لها بالعزة والكرامة، ولا النصر أيا كان نوعه. حجم التفاعل الإيجابي الكبير مع كلمات العاهل السعودي، أقل ما كان من الممكن وصفه بأنه جاء كالماء للعطشان، فهو أظهر مدى حاجة الناس الملحة لجرعة بسيطة من الأمل، وومضة خفيفة من الضوء في عتمة سياسية داكنة. خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز كان بسيطا ومباشرا ومختصرا، ولكنه كان «صعبا»، لأنه تخطى، وبحكمة، الكثير من المواقف المؤذية والصغيرة، لأنه قرر أن هناك مسائل أهم من أخرى، وأن للضرورة أحكاما. ترفع عن المواقف الصغيرة، وأظهر للعالم العربي تحديدا أن للقيادة الحكيمة شروطا وأثمانا، قدمها العاهل السعودي بكل نبل ورقي، وحاز بها التقدير. تبقى الخطوات القادمة، وهي خطوات لن تقل أهمية عن مضمون الكلمة التي ألقيت، والكل يجلس ويترقب استثمار هذا الحدث المهم، حتى لا تعود الأمور إلى ما كانت عليه، لأن هذه ستكون بمثابة زهق للروح الجميلة.

[email protected]