بين الاعتدال والممانعة

TT

سألني صديق - ومسئول خليجي كبير - عن كلمة يعبر بها عن موقفه مع انتشار فرز جديد: معسكر الاعتدال في موازاة معسكر الممانعة. وسياسيا، فإن مدلولات الاعتدال هذه الأيام عند أهل الممانعة تعني الاستسلام والعمالة والخيانة والصهينة والخنوع والخضوع...إلخ، بينما تحوي مضامين كلمة «الممانعة» عند فريق الاعتدال الصراخ والشعارات الجوفاء والتكسب على حساب دماء الأطفال والانتصارات الوهمية والمغامرات العبثية المدمرة.. إلخ.

وطلب مني صديقي – كلغوي - أن أنحت له كلمة تعبر عن موقفه الـ «بين – بين»، فلا هو «معتدل» بمعنى الخضوع والاستسلام، ولا هو «ممانع» بمعنى الاسترزاق والتكسب على دماء الأبرياء. يؤيد صديقي المقاومة المسئولة، ويرفض العبثية التي لا أهداف سياسية لها، ويؤيد السلام العادل، الذي لا يفرط بالأساسيات من الحقوق العربية.

لغتنا السياسية تتغير بتغير الظروف والمعطيات. بعد النكسة: كانت مرحلة «اللاءات» الثلاث في مؤتمر قمة «مصالحة» الخرطوم: لا صلح، لا اعتراف، لا استسلام. وبعد مشروع روجرز، كان الشق والتخوين وبداية الاتهامات. لم يسلم منها حتى عبد الناصر نفسه. أما السادات، فكان صاحب النصيب الأكبر من عبارات التخوين والعمالة في أدبياتنا السياسية. بعد توقيعه اتفاقية كامب ديفيد، تصدى له معسكر اسمه معسكر الصمود والتصدي. المعسكر لم يصمد في وجه الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ولم يتصد له، فاحتلت إسرائيل لبنان حتى أخرجتها المقاومة عام 2000.

الانشطار العربي في المواقف السياسية يصاحبه خلق مصطلحات جديدة مرادفة له. كانت الساحة الفلسطينية دوما انعكاسا للساحة العربية ككل، فلما انشقت فتح «أبو نضال» عن فتح «الأم»، سموا أنفسهم بـ «المجلس الثوري»، ولما انشق أحمد جبريل عن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بقيادة جورج حبش، سمى تنظيمه «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة». ولما ثار أبو موسى على أبو عمار بعد معركة حصار بيروت، سمى نفسه وجماعته بـ «فتح الانتفاضة».

في لغتنا العربية السياسية، وبعد كامب ديفيد تحديدا، بدأت المعسكرات بالتباعد. وتكاثرت التسميات - وما أكثرها: معسكر الاستسلام، مقابل معسكر الصمود، ومعسكر الخيانة في مواجهة المعسكر القومي، ومعسكر الخنوع في مقابل معسكر النضال.. وهكذا.

رحت أبحث عن معاني الاعتدال والممانعة واستخداماتهما، لعلي أستخلص منهما كلمة تجمل موقف صديقي وتمازج بين الاعتدال والممانعة.

العادل من أسماء الله الحسنى، والعدل أساس الملك، والعدالة مطلب فلسطيني وعربي محق، والاعتدال الربيعي في الفلك يعني تساوي الليل بالنهار في الربيع، ويقابله «الخريفي» وهو تساويهما في الخريف. لعل قولنا «الطقس معتدل» تطورت من الاعتدالين الربيعي والخريفي، لأنه لا أصل لها في التراث.

وعبارة المعادلة في الرياضيات لها طرفان يسميان طرفا المعادلة. لا يتفق صديقي على أن الاعتدال والممانعة هما طرفا المعادلة حصرا، ولا بد من طرف ثالث. والاعتدال عكس الاعوجاج. الغريب أن الاعوجاج يمكن أن يخرج من نفس الجذر فيقال «إنْعَدَلَ عن الطريق أي حاد (اعوج) عنه». والعديل يعني المساوي له، وفي العلاقات العائلية تعني زوج أخت زوجة الرجل. العرب «الأشقاء» عائلة واحدة يفرقها التضاد أكثر مما يجمعها «الضاد». وأما الممانعة فأصلها من «منع»، والمنع تعني حرمان الشيء، وفي دعاء الكبار شعبيا «الله يمنعنا من الشين». وتعني «المَنَعة» أيضا العزة والكرامة، فيقال «فلان ذو منعة»، ويقال في الأمثال «يتمنّعن وهن الراغبات»، كناية عن حياء العذارى حين يتقدم لهن الراغبون بالزواج. فكم من ممانع راغب، وكم من معتدل «كاره». والمنيع هو الحصين الذي يصعب الوصول إليه. ليس بين الاعتدال والممانعة طريق ثالث، نحن العرب أمة «إما أو»، بوشيون (نسبة إلى بوش)، «من ليس معنا، فهو ضدنا».

يا صديقي: المثل المصري يقول «امش عِدِل، يحتار عدوك فيك».