أوقفوا القتل ولتصدح الموسيقى!

TT

عذرا من الرئيس النجم باراك أوباما، لقد كان صعبا علينا أن ننتقل بسرعة «الروبوات» من أجواء المجازر، إلى مفاتن الأفراح والمباهج التي أحاطت بتنصيبه إمبراطورا على عالم يضجّ بالفضائح. فجثث الغزيين لم تكن قد انتشلت من تحت الأنقاض بعد، وروائح الموت تهدد أهل غزة بالأوبئة، فيما الجوع يعتصر البطون الخاوية، بينما أميركا تحتفل بأوباما وأبطالها الذين رفعوا راية المساواة والحقوق المدنية عاليا. كنا مشغولين لحظتها بحق الإنسان في العثور على جثث أطفاله. إنها حقا لمفارقة مرعبة. لقد انفجرت موسيقى التنصيب الصاخبة فرحا، فيما كان آلاف ضحايا الأسلحة الأميركية الفلسطينيين لا يحظون بنغم جنائزي حزين يشيّع موتاهم، وهم يرتجفون بردا في العراء، بعد أن سويت منازلهم بالأرض، واتهمت حتى شجرة الزيتون بأنها تخبئ مقاتلين، فجرفت.

كان علينا أن نبتلع أيضا صورة زعماء أوروبا المنتشين، يشربون مع أولمرت نخب وقف إطلاق النار، وهم يقنعونه أن أمن إسرائيل أولويتهم، فيما الفوسفور يحرق ويغور في عظام جرحى غزة على مرمى حجر، من دون أن يتكّرم أحد زعماء «العالم الحر» بزيارتهم وإلقاء نظرة عَجْلى على نزفهم. «شر البلية ما يضحك»، ففي شرم الشيخ كان المشهد أشد فتكا، قادة دول كبرى بالجملة يتحدثون عن السلام والأمل، فيما شريط الأخبار العاجلة يعلن عن العثور على مئة جثة تحت الأنقاض. علقت مراسلة مجلة «لوبوان» الفرنسية على المشهد الفريد لزعماء أوروبا المصفوفين على طاولة واحدة بالقول: «لقد ذهب رؤساؤنا لالتقاط الصور. فما أوقف الحرب هو الاتفاق الأمني الذي وقعته رايس مع ليفني، وليست الزيارات المكوكية لساركوزي إلى مصر، أو ذاك الاجتماع الشكلي لقادة أوروبا». لكن، هل كانت إسرائيل بحاجة لإحراق غزة، ألَم يكن هذا الاتفاق الأمني الغبي ممكنا في جلسة أنس بين الصديقين أولمرت وبوش، لتصبح بعدها بحار العالم ومحيطاته مكان تفتيش وتنبيش عن أسلحة الدمار الشامل الذي يصل إلى غزة؟ ثم عن أي أسلحة يتحدثون؟ بعد أن فشلت حماس ومعها كافة الفصائل، على الرغم من التهديدات المزلزلة وإطلاق مئات الصواريخ، من قتل أكثر من 13 إسرائيليا. عدد يموت ما يفوقه في حوادث سير في أي بلد على مدى 22 يوما. على من يتوجب حظر الأسلحة، أعَلى من احتلت أرضهم، وقاتلوا بصدورهم العارية، أم على من يحتل الأرض ويتزود بكل المحرمات، فوسفورية ومشعة وانشطارية، ويطالب أحد قادتهم باستخدام القنبلة النووية، بعد أن عجزوا عن تركيع الفلسطينيين، وإن نجحوا في إعادتهم إلى العصر الحجري.

لم ترفع حماس الراية البيضاء، ولم تقبل باتفاق مذلّ، وهذا ما كانت تحلم به إسرائيل. اكتفت إسرائيل باتفاق كان في متناولها من دون سقوط ضحية واحدة. ضعفت حماس عسكريا، لكنها تحولت من تنظيم منبوذ ومحاصر إلى حركة مقاومة لها رمزيتها من جاكرتا إلى بوليفيا. وها هي أوروبا على شفا تعاون مع أي حكومة وحدة وطنية تضم حماس، وهو ما كان محظورا إلى اليوم. وثمة خبر أوردته «الغارديان» يوم 9 يناير (كانون الثاني) يقول إن مستشارين لأوباما ينصحونه بالتحدث مع حماس، سرا أو عبر أقنية، والجو السائد في الإدارة الجديدة هو أن عزل حماس لم يعد مجديا. وبالتالي فالتنطح الغربي بمقاطعة حماس، ما لم تعترف بإسرائيل، سيتم الالتفاف عليه، بعد أن وصل الجميع إلى الطريق المسدود. فهل كنا بحاجة لتحويل ما تبقى من أطفال غزة إلى مجموعة من الانتحاريين المستقبليين يحلمون بالثأر، ليقرّ العالم بوجود حماس، من دون أن نتعلم الدرس الجزائري الدامي مع الإسلاميين؟. أخطأت حماس تكرارا، لكن الطرف المقابل أخطأ أكثر منها. فقبل إعلان حماس إنهاء التهدئة بأيام، كتبت مراسلة «السنداي تايمز» تقريرا تقشعر له الأبدان، عما تسبب به الحصار من إذلال للنفس البشرية في غزة: «الناس يقتاتون حشائش الأرض ويتدفأون بإشعال ما يجدونه في القمامة»، وروت سيدة أنها أحرقت خزانتها، وهي آخر ما تبقى من بيتها، كي لا يموت أطفالها بردا، فيما قالت ابنتها إنها لم تعد تذكر آخر مرة رأت فيها (وليس أكلت) ثمرة فاكهة. برنارد كوشنير نفسه اعترف على التلفزيون الفرنسي، تحت وطأة المظاهرات المتعاطفة مع غزة في بلاده، أن سد المنافذ والمعابر كان سيثمر حتما أنفاقا تحت الأرض، وأن الغرب لا يزال يعاني عقدة ذنب تجاه اليهود، ولذلك ينصرهم من دون وجه حق، ويسمح لإسرائيل وحدها، من دون غيرها، أن تبقى خارج القانون والشرعية. لكن الغريب أن العالم يمنع أهل غزة من العيش على الأرض، ثم يضربهم حين يهربون تحتها. الظلم بيّن، والكلام الدبلوماسي بات خارج الموضوع، فممثلة «منظمة التحرير» في باريس، هذه السيدة الرائعة التي ناضلت بقوة من أجل السلام، وحاورت الإسرائيليين وصادقتهم وصدّقت حججهم، نفذ صبرها أثناء الحرب، وخلال مقابلة تلفزيونية مع السفير الإسرائيلي تحدث فيها عن أن بلاده تميز بين فلسطينيين يريدون السلام وإرهابيي حماس، ردت ليلى شهيد على السفير غاضبة: «أنا من يمثل فريق السلام الذي تتحدث عنه، حتى إشعار آخر، وها أنا أقول لك: لقد جردتمونا طوال خمس عشرة سنة مفاوضات من كل مصداقية أمام شعبنا، لم تعطونا شيئا، ولم يبق لنا من حجة». منظمو المظاهرات في أوروبا يتحدثون عن حماس منقطع النظير، للجيل الثالث للقضية الفلسطينية، وكان الظن أن هؤلاء انقطعت صلتهم بجذورهم أو تكاد، وأطفالنا في العالم العربي، كانوا يسألون عما يحدث، وكل منا وجد نفسه مضطرا لأن يشرح لصغاره. فعذرا أوباما، كنا نود الاحتفال بك، لكننا مشغولون بدفن موتانا، وقص حكاية فلسطين على صغارنا المذهولين.

[email protected]