رسول بلا رسالة

TT

أيهما يستحق احتفالا عالميا مدويا: تنصيب أوباما رئيسا للولايات المتحدة، أم رحيل جورج بوش عن البيت الأبيض؟

بالنسبة إلى العديدين، داخل الولايات المتحدة وخارجها، تعكس فرحة تنصيب أوباما فرحة انتقالهم إلى عالم بلا جورج بوش، في موقع القرار الدولي.

عالم قد لا يكون بالضرورة واعدا. ولكنه أتاح للعالم أجمع أن يتنفس الصعداء لانتهاء ولاية أول رئيس «رسولي» في واشنطن، استلهم الغيب في اتخاذ العديد من قراراته، مدعيا التواصل المباشر مع الوحي الإلهي.

الحسنة اليتيمة لبدعة الوحي الإلهي كانت في توسله لتسويق اقتراحه لمشروع الدولتين المستقلتين على أرض فلسطين (علما بأن خلفيته الحقيقية كانت الرغبة في «تبليع» العرب خطته لغزو العراق).

قيل الكثير، وسيقال أكثر أيضا، في إنجازات وأخطاء بوش على مدى السنوات الثماني المنصرمة. مع ذلك يبقى التاريخ وحده الحكم الأخير على عهده. وتعزية بوش في هذا المجال أن حكم التاريخ، مهما كان قاسيا، لن يتبلور قبل سنوات يكون خلالها «من ضرب ضرب ومن هرب هرب».

أما تعزية من يبغض سياسات أميركا، سواء بالفطرة أو بالمنطق، فقد تكون أن يترك بطل الحرب على «الإرهاب الدولي» (التسمية المهذبة لقرار البطش بكل أشكال المقاومة الوطنية) البيت الأبيض، وهو أقل الرؤساء الأميركيين شعبية في بلده، والأكثر إساءة إلى سمعة الولايات المتحدة. والتعزية الثانية على هذا الصعيد أن سمعة الولايات المتحدة في الخارج، تدهورت بالتكافل والتضامن مع سمعة آل بوش السياسية، بحيث اضطر الوريث الثالث لاسمها (شقيقه الأصغر، حاكم فلوريدا جيب بوش)، إلى العودة عن قراره خوض انتخابات مجلس الشيوخ.

مؤيدو جورج بوش - أو القلة المتبقية منهم - يدعون أن بوش، المغادر للبيت الأبيض، هو غير بوش الداخل إليه عام 2000، إذ أن اعتداءات 9 سبتمبر(أيلول) 2001 أخلت باعتداله السياسي وحولته، لاحقا، إلى أسير لتنظيرات «المحافظين الجدد».

لا جدال في أن اعتداءي نيويورك وواشنطن كانا تحديا قاسيا لإدارة بوش، ومبررا شرعيا لملاحقة العقل المدبر لهما، إلى داخل أفغانستان.

ولكن الرؤية «الرسولية» لجورج بوش، التي انتعشت في ظل الحروب الخارجية، حرفته عن حرب الضرورة في أفغانستان، إلى حرب الخيار في العراق في إطار حرب «دون كيشوتية» واسعة على الإرهاب.

ومع تحول رئاسة بوش إلى عهد إدارة الحروب الخارجية، ازداد دور الظاهرة «الرسولية» في قراراتها... وهكذا قسم بوش العالم - كما في أفلام الكاوبوي الأميركية - إلى محور «خير»، هو بطله، ومحور «شر» معظم ممثليه من الشرق الأوسط.

وبدورها أسهمت النفحة «الرسولية» في إقناع بوش بأن قراراته «الإلهية» لا رجوع عنها، فضرب عرض الحائط بمعارضة معظم حلفائه الأوروبيين لقراره غزو العراق، وبلغ حد إضفاء طابع الحملة الصليبية على حربه على «الإرهاب الدولي». مع ذلك، ما كان الخروج على روح الديمقراطية الأميركية ونصوصها، ليحدث، لو لم يكن جورج بوش مهيأ، نفسيا، لممارسة حكم بلا ضوابط، الأمر الذي سهل عليه الاستهانة بنظام بلاده، وتجاوز دستورها بإجراءات لم يألفها الأميركيون، في أحرج أيام الحرب العالمية الثانية، ومن بعدها الحرب الباردة، مثل «التلاعب» بمعلومات أجهزته الاستخباراتية، لإقناع العالم، بشهادات كاذبة، أن صدام حسين يخفي ترسانة من أسلحة الدمار الشامل، ومثل فرض نظام تنصت على مكالمات الأميركيين الهاتفية، ومثل غض الطرف - إن لم يكن الموافقة ضمنا - على ممارسات التعذيب في معتقل غوانتانامو وسجن أبو غريب، ومثل إقالة المدعين العامين على خلفيات سياسية فحسب.

أما مأثرة جورج بوش الأخيرة، فقد تكون تفوقه على أي رئيس أميركي قبله في حجم الأزمات التي يورثها لخليفته، بدءا بالمشكلات والحروب العالقة في الخارج (والتي تفاقمت إبان عهده)، وانتهاء بالوضع الاقتصادي والمصرفي المتعثر في الداخل.

أي نظرة سريعة إلى هذا السجل، توحي بأن مشكلة الرئيس أوباما لن تكون «مستقبل» إدارته، بقدر ما هي «ماضي» إدارة بوش.