الانتخابات العراقية: يهمنا الخاسرون وليس الرابحون

TT

إلى حد كبير تبدو انتخابات مجالس المحافظات، نهاية الشهر الحالي، بداية لصراع من أجل البقاء، والى حد كبير، يبدو علينا أن نفكر بمن سيكونون الخاسرين، أكثر من التفكير بالفائزين. ملامح لممارسات كسر العظم تلوح في التنافس الحالي حيث تبدو كل المواقع مهددة ولا احد يستطيع أن يكون بمأمن من خطر التغيير. الأحزاب الكبيرة وبفعل ما تمتلكه من خبرات وموارد ونفوذ في المؤسسات القائمة وامتدادات داخلية وخارجية تخوض صراعاتها فيما بينها، لكنها أيضا تخوض صراعا كامنا مع القوى التي كان يفترض بها أن توفر مشروعا بديلا. في الحقيقة أن الناخبين العراقيين وان كانت غالبية ساحقة منهم تميل إلى رفض التجديد لمجالس المحافظات القائمة وتحميل الأحزاب المهيمنة عليها مسؤولية الفشل في تحسين الوضع الحياتي لناخبيهم، إلا أن الرفض وحده ليس كافيا لحثهم على المشاركة طالما أن بديلا ذا مصداقية لا يلوح في الأفق. لذلك بقدر ما تبدو الانتخابات القادمة اختبارا صعبا للأحزاب الكبيرة التي تسعى لعدم التفريط بمكاسبها، فإنها أكثر صعوبة للأحزاب الصغيرة التي فشلت تماما في تقديم بديل يحظى بالمصداقية.

لقد أثبتت تجربة البرلمان العراقي في السنوات الماضية أن السلوك الاحتكاري للأحزاب الكبيرة الذي تجلى بقوة عبر آلية المحاصصة التي يمكن تحميلها الكثير من المسؤولية عن إخفاق معظم مؤسسات الدولة، إن هذا السلوك ليس المنقصة الوحيدة داخل العملية السياسية بل ان سلوك الأحزاب الأصغر كان لا يقل إضرارا بتلك العملية. الرافضون لتحالف الأحزاب الكبيرة الحاكمة لم يطرحوا مشروعا بديلا أو يقدموا رؤية ناضجة أو يشكلوا معارضة فعالة، بل ان سلوكياتهم حكمها منطق التعطيل القائم على أهداف آنية ضيقة ومصالح عابرة، أدت أحيانا إلى رهن قضايا مصيرية ورئيسية بقدرتهم على تحشيد قوة تصويتية معطلة، هدفها ليس تقديم معالجة مختلفة لتلك القضايا بل وضع العصي في الدواليب انتظارا لصفقة ما تؤدي إلى تفكك تحالف الممانعة الهش بعد أن يحصل احد أطرافه على مكسب ما. القوى غير الكبيرة افتقرت لأي رؤية استراتيجية، لا لمصلحة البلد ولا حتى لمصالحها هي، وهي في سلوكها إما تصاغرت إلى مستوى السلعة العابرة في سوق البيع والشراء أو تعاظمت إلى اجترار مواقف كبرى وشعارات طوبائية لا تكلفها مسؤولية البحث عن مخارج واقعية وقابلة للتحقق. وفي الوقت الذي كان بإمكان هذه القوى أن تنتج بديلا يوسع دائرة الخيار للناخبين يبدو أنها ستكون الأسرع في السقوط في معركة كسر العظم القادمة.

إن التعطيل ليس استراتيجية، والرفض ليس برنامجا، والمناكفة ليست بديلا سياسيا، وهذه القوى لم تخرج في تصرفاتها عن هذه الأطر، هي قد تعارض المحاصصة؛ ليس لأنها تضر بمستقبل العراق وكفاءة مؤسساته بل لأنها لا تمنحها جزءا من الكعكة، وهي قد تعارض مشروعا ما، ليس لان لديها بديلا أفضل، بل لأنها لا تحب من قدّمه، وهي قد تتحالف، ليس لإنتاج بديل سياسي أو معارضة ناضجة، بل لكي تستغل بعضها البعض لحين تحقيق إحداها مكسبا ما ليدير ظهره لـ«حلفائه» لأن هذا التحالف أسير اللحظة السياسية العابرة وليس استحقاقات مقترنة برؤية بعيدة المدى. ولو قيس ما تسببت به هذه السلوكيات من فترات التعطيل والانحراف عن المسار التشريعي والإخلال بسلم الأولويات والدخول في مناكفات تخلو من القيمة الحقيقية بالنسبة لاحتياجات البلد، لأدركنا كم أسهمت هذه القوى في تغييب او إعاقة البديل السياسي الناضج، ولم تستفد من استعداد الناخب للبحث عن هذا البديل.

إن الشارع العراقي الساخط على ضعف الأداء لن يجد إغراء كبيرا للتصويت لمن اقترن أداؤه بمنطق التعطيل، ومزاج العراقيين يزداد بعدا عن المواقف التفتيتية للقوى الصغيرة التي وهي تمارس اعتراضها على احتكار الكبار تتناسى في الغالب أنها، وعبر انشطاراتها المتكررة، نتاج لنفس عقلية الاحتكار التي تفضل الانكفاء على الذات، على تحمل مشقة الوصول إلى مشتركات ونقاط وسطى مع الآخرين. هناك ما يدفعنا إلى الاعتقاد بان الناخب العراقي لن يميل إلى إنتاج مزيد من التفتت في الطبقة السياسية لأن مصلحته ليست في نظام يتجاوز عدد لاعبيه قدرة الجمهور على التحمل، فقد بات جليا أن تعدد القوى لا ينتج بالضرورة تمثيلا أفضل أو توسيعا للمشاركة، بل عناصر اكبر للإعاقة خصوصا عندما يتحول هذا التعدد إلى غطاء لتفتيت المؤسسات عبر التوزيع الاسترضائي لمواقعها بين اللاعبين، والنقمة على بعض الأحزاب الكبيرة لن تؤدي إلى تفضيل القوى الصغيرة، لان ذلك يعني الهروب من أزمة إلى أخرى أكثر تعقيدا، ومن تشرذم إلى تشرذم اكبر. إن طبيعة التحدي الأكبر أمام العراقيين اليوم، هو تحدي بناء الدولة وترسيخ دعائمها ولا يمكن الاستجابة له عبر منطق التفتيت السياسي والارتهان إلى القوى الصغيرة المتناحرة والمنشدة إلى أهداف قصيرة الآجال، والى سلوك يرهن الاستراتيجي بالتكتيكي، وتجارب دول مثل ألمانيا واليابان وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وتركيا في السنوات الأخيرة، برهنت على أن الاستقرار بحاجة إلى قيادة قوى متماسكة وكبيرة بما يكفي لكي تكون هويتها وأهدافها واضحة، ولو بحدها الأدنى. ان ما يحتاجه الناخب العراقي هو إعادة إنتاج قوى كبيرة تفتح الطريق لثنائية الحكومة المنسجمة والمعارضة المنسجمة، وتؤدي في الانتخابات المقبلة ليس فقط إلى تصغير حجم ورقة الاقتراع بل وأيضا إلى جعل الخيارات أكثر وضوحا، بدل التشويش الناجم عن مباراة جل لاعبيها هواة يبحثون عن ربح سريع..