الملك والرئيس.. على أعتاب عالم جديد؟

TT

كانت الكلمة التي ألقاها الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة الكويت مفاجئة للجميع، وهم الذين جاءوا وفي أذهانهم مؤتمرات القمة التقليدية، وفي أذهانهم كلمات تقليدية يلقونها، ثم يتشابكون فيها بالألسن وإلقاء التهم، ثم يخرجون ببيان ختامي هزيل يقول كل شيء ولا يقول شيئا على الإطلاق. واليوم، هنالك حرب باردة عربية لا شك في ذلك. وهنالك انقسام عربي إلى معسكرين لا شك في ذلك. وهنالك أطراف غير عربية تحرك أطرافا عربية في اتجاه مصالحها لا شك في ذلك. وأصحاب القضية الفلسطينية منشغلون بأنفسهم، وداخلون في اللعبة السياسية على حساب قضيتهم، وبالرغم من مأساة غزة، لا شك في ذلك. في ظل هذه الظروف العربية والإقليمية المتشابكة، جاءت كلمة الملك عبد الله في محاولة لإعادة توجيه الأمور، خاصة وأن هنالك إدارة أميركية جديدة قادمة، سوف تتعامل مع الأمور حسب ميزان القوى على الأرض، وليس حسب الأماني والدعوات إلى إقرار الحق والعدل، الذي يقيسه كل جانب وفق معاييره وضوابطه. صحيح أن الرئيس الأميركي الجديد يبشر بسياسات جدية في التعامل مع العالم، ولكن السياسة تبقى سياسة، فهي فن الممكن، وفن الممكن يتعامل مع ما هو ملموس في المقام الأول، ولا يمكن لرئيس دولة أن يتفادى واقع الحال، مهما كان مثاليا، فالواقع يفرض نفسه حتى لو كرهناه. من هنا نستطيع أن ندرك لماذا تفجرت مأساة غزة في هذا الوقت بالذات، ولماذا كانت كلمة الملك في قمة الكويت.

فما جرى في غزة هو نوع من اختبار القوة بين إسرائيل وإيران في المقام الأول، كانت فيه حماس مجرد فتيل تفجير له، لإرسال رسالة ضمنية إلى الرئيس الأميركي الجديد مفادها أنني (سواء كان الضمير هنا عائد إلى إيران أو إسرائيل) الأطول باعا والأكثر قدرة على التحكم في المنطقة وشؤونها، سواء حربا أو سلما، وبالتالي فأنا من يجب أخذه في الاعتبار أولا حين صياغة سياستكم تجاه منطقة الشرق الأوسط. وما يؤكد مثل هذا التحليل، هو ما صرح به السيد خالد مشعل من أن الهدف كان استفزاز إسرائيل، ثم تقوم الأخيرة بالهجوم ليوم أو يومين، كفيلة بإحراج دول الاعتدال العربي، وخاصة مصر، وربما قامت الجماهير بمظاهرات غضب تساعد على زيادة إحراج الحكومات العربية، وهذا بالضبط ما تريده إيران رسالة إلى أوباما وإدارته الجديدة: أنا قادرة على تصعيد الأمور أو تهدئتها متى شئت ومتى أردت، وبالتالي تقوي من مركزها التفاوضي مع الولايات المتحدة، فيما لو حدث ذلك مستقبلا، وهو أمر غير مستبعد إطلاقا، في ظل تصريحات أوباما.

أما إسرائيل، فإنها بعملية غزة، تقول للإدارة الأميركية الجديدة إنها القوة الوحيدة في المنطقة القادرة على مواجهة «البعبع» الإيراني، من خلال القدرة على ضرب منشآتها النووية مباشرة، أو من خلال تلك الأذرع التي تحركها من حين إلى حين (حماس وحزب الله بشكل أساسي)، وليس من قوة أخرى تستطيع التصدي لإيران، سواء كانت السعودية أو مصر، بعد انضواء سوريا تحت الجبة الإيرانية، وبالتالي لا حليف مضمونا ومعتمدا عليه غير إسرائيل. كل ما جرى في غزة البائسة، وكل تلك الأنهار من دم الأبرياء والضعفاء، كان ثمنا بخسا، دراهم معدودة، لصراع الأيدي الخفية، ولعبة شد الحبل بين إيران وإسرائيل على النفوذ في المنطقة، ومجرد رسالة لإدارة أميركية جديدة حول من هو الأحق بأن يكون هو الحبيب (كما في الحالة الإسرائيلية)، أو من هو الأحق بالتفاوض معه حول مستقبل المنطقة (كما في الحالة الإيرانية)، ولا عزاء للطفل والشيخ والمرأة في غزة.

من هنا، وعلى افتراض أن التحليل صحيح، جاءت كلمة الملك عبد الله لتقلب موازين كثيرة. فكلمته لم تدعو إلى إنهاء الخلافات العربية العربية، والحرب الباردة العربية، بل قالت إنها انتهت بالفعل، على الأقل من الجانب السعودي، وذلك لوضع القادة العرب الآخرين أمام الأمر الواقع. فالدعوة إلى نبذ الخلاف مسألة فيها أخذ ورد، أما أن تنهي الخلاف، حتى لو كان من طرف واحد، فمسألة تضرب بها عصفورين بحجر واحد. أما العصفور الأول فيكمن في أنه لو نبذ الآخرون الخلاف، كما نبذه الملك، فإن ذلك سيؤدي إلى نهاية الانقسام والحرب الباردة العربية، وفي ذلك تفويت الفرصة على إيران، التي تلعب على وتر الخلافات العربية - العربية لتحقيق سياساتها وأهدافها في المنطقة، وقصقصة لأجنحة تلك المنظمات التي ترفع راية تحرير فلسطين، وهي في حقيقتها منظمات سياسية تسعى إلى السلطة والنفوذ، ولا شيء غير ذلك، حين تجد نفسها محاصرة بنظام عربي موحد، غير قادرة على اختراقه، أو اللعب على خلافاته لتحقيق مآربها. ومن الزاوية الإسرائيلية، فإن تصريح الملك بأن مبادرة السلام العربية ليست مطروحة إلى الأبد، فإن في ذلك رسالة إلى إسرائيل وأميركا في آن معا. فبالنسبة لإسرائيل، هي القول بأن المبادرة لم تكن استسلاما، فالخيار الآخر ما زال مفتوحا. وبالنسبة لأميركا، فهي القول بأن أمور المنطقة من الممكن أن تكون أسوأ فيما لو لم تتعامل إدارة أوباما مع هذه المبادرة بجدية أكثر مما فعلته الإدارة السابقة. أما العصفور الآخر، فيكمن في أنه لو رفض الآخرون نبذ الخلاف، واستمرت التحالفات والتحرشات، فإنهم يكشفون أنفسهم والحالة هذه، ويتبين أن شعاراتهم ليست إلا كلمات جوفاء، تخفي وراءها مصالح خفية، لا علاقة لها بالأهداف المعلنة، ولا بالشعارات الطنانة، وفي ظني، وأرجو أن أكون مخطئا، فإن هذا هو ما سيحدث، وحينها يحق للسعودية أن تمارس السياسة التي تحقق مصلحتها، حتى لو كان ذلك بمعزل عن الآخرين، الذين فوتوا الفرصة، وآثروا أن يبقوا أسرى أحلام ضيقة، التي سيثبت التاريخ أنها كانت مجرد أحلام صيف.

وعلى الجانب الآخر من العالم، كانت كلمة الرئيس باراك أوباما يوم تنصيبه تاريخية بكل ما في الكلمة من معنى، لا تقارن إلا بكلمات جورج واشنطن، وإبراهام لينكولن، وجون كينيدي. وإذا كانت مقولة كينيدي في يوم تنصيبه رئيسا: «لا تسأل ماذا تستطيع بلادك أن تقدم لك، ولكن اسأل ماذا تستطيع أنت أن تقدم لبلادك»، قد أصبحت من الكلمات الخالدة، فإن مقولة أوباما: «لا بد أن تستطيع إنسانيتنا أن تداوي جراحها وتشفي نفسها بنفسها، إذ يتعين على أميركا أن تلعب دورها، وتستهل مرة أخرى عهدا جديدا من السلام»، سوف تدخل أعماق التاريخ، فهي تبشر بعهد جديد لأميركا والعالم، بعيدا عن تعصب المسيحيين الجدد، وبعيدا عن غطرسة أميركية كان شعارها «ما هو صالح لأميركا، صالح لكل العالم»، وبعيدا عن سياسة كان الكي فيها أول العلاج وليس آخره. ويبدو أن أوباما جاد فيما يقوله، فها هو يستهل أيامه الأولى في إقفال معتقل غوانتانامو الرهيب وغير الإنساني، ويشدد على منع كافة أنواع الأساليب التي تهين الإنسان في كرامته وحقه في الحرية. بطبيعة الحال لن يستطيع أوباما أن يقلب العالم فينقله من الجحيم إلى النعيم في غمضة عين، ولكننا هنا، وربما من المرات القلائل في التاريخ الأميركي، بصدد رئيس مختلف، رئيس يحمل رسالة إنسانية لكل العالم، وليس رسالة عنصرية تقوم على منطلقات دينية، كما فعل بوش وجماعة اليمين المسيحي الجديد. رسالة إلى العالم مفادها باختصار أنه إن لم تحترموا أنفسكم فلن نحترمكم: «إلى أولئك القادة في أرجاء العالم، الذين ينشرون بذور الصراع ويلقون باللوم في آلام مجتمعاتهم على الغرب، نقول: فلتعلموا أن شعوبكم سوف تحكم عليكم وفق ما تبنون لا وفق ما تدمرون. وإلى أولئك الذين يتمسكون بالسلطة بالفساد والخداع وكتم أصوات المعارضين والمنشقين، نقول: فلتعلموا أنكم على الجانب الخطأ من التاريخ، لكننا سوف نمد لكم أيدينا إذا أظهرتم الإرادة والرغبة في الحل، وإرخاء قبضتكم» على عكس رسالة بوش والتي كان مفادها افعلوا ما شئتم طالما أن مصالح أميركا غير متضررة، فأضر بوش في النهاية بمصالح أميركا ومصالح الآخرين، بل ولم يغادر بوش إلى تكساس، إلا ولم يبق أحد في هذا العالم إلا وهو كاره لأميركا. أميركا اليوم، ومع إدارتها الجديدة، سوف تكون شيئا مختلفا، حتى لو لم يكن ذلك الاختلاف المأمول تماما، ولكن أميركا تتغير، وتتغير إيجابا وليس سلبا، كما كان الأمر مع إدارة بوش. والسؤال الآن، ومع إدارة أميركية جديدة تمد يد المشاركة في صنع عالم جديد، ماذا نحن فاعلون؟ بل ما هم فاعلون قادتنا؟ فها هو رئيس القوة الأعظم في العالم يعلن من أنه قد ولى وقت الدعم المطلق لهذه الدولة أو تلك، لمجرد أنها حليف، وجاء وقت الفرز على أساس نوعية حياة الحليف أو الصديق. بإيجاز العبارة، إما أن يحترم هؤلاء القادة شعوبهم، لأنها هي السند في النهاية، أو أنهم سيجدون أنفسهم بلا ولي ولا نصير، سواء في الداخل أو الخارج، أو فيهما معا، وكان الله في عون من أعانوا أنفسهم.