مهمة الأيام المقبلة

TT

اثنان وعشرون يوما.. والقنابل الإسرائيلية تنهمر على غزة، وغزة صامدة.

اثنان وعشرون يوما.. والجيش الإسرائيلي يحاصر غزة، ويمنع عنها الماء والدواء والطعام، وغزة صامدة.

اثنان وعشرون يوما.. والتدمير يشمل المنازل والمدارس والمساجد والمستشفيات ومراكز الإدارة، وغزة صامدة.

اثنان وعشرون يوما.. والقتل يحصد أطفالا ونساء ورجالا، غصت بهم أروقة المستشفيات، وغزة صامدة.

لم ترفع غزة العلم الأبيض. لم يحدث فيها الانهيار الذي كان ينتظره جنرالات إسرائيل. لم تستسلم غزة، بل عجز الجيش الإسرائيلي عن اقتحامها.

وفي مواجهة هذا المشهد البطولي والمأساوي والمظلم. المشهد الذي لم تضئه سوى قنابل الجريمة المحرمة دوليا (قنابل الفوسفور)، بزغ مشهد عالمي آخر. خرج الإنسان في كل مكان يستنكر الجريمة الإسرائيلية، وخرج في كل مكان يتضامن مع أهالي غزة. وشهدت القضية الفلسطينية زخم تأييد جماهيري، عربي وإسلامي وأوروبي وأميركي، لم يحدث مثيل له منذ العام 1948. وكان دعم القضية الفلسطينية، والانتصار لأهالي غزة، يعني شيئا آخر إضافيا، يعني إدانة لإسرائيل على مدى العالم. إدانة لم تحدث من قبل.

على وهج هذه الصورة، وبكل ما فيها من عوامل التدمير والألم والبطولة، انفتح المشهد العربي عن حالتين مزمنتين: انقسام فلسطيني، وانقسام سياسي عربي. وكان هذان الانقسامان يتفاعلان وينتجان وضعا عربيا غريبا، تقترب أجزاؤه من الاصطدام مع بعضها بعضا.

هنا ظهرت سريعا دعوة لانعقاد قمة عربية ترد على القنابل الإسرائيلية المنهمرة فوق رؤوس البشر، ولكن ذلك لم يحدث. قيل إن اجتماعا ينعقد في جامعة الدول العربية يكفي. انعقد الاجتماع وتقرر أن يتوجه وفد منه إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يوقف إطلاق النار. وذهب الوفد إلى هناك وبدأ العمل. فجأة برز حدثان. ذهب وزير خارجية مصر إلى تركيا طالبا وساطتها من أجل مصالحة عربية. بدا المشهد غريبا ولكن تركيا تحمست، وفجأة برز موقف تركي يدين إسرائيل بشدة، وينتقد عدوانها وتدميرها. ولم نعد نسمع بعد ذلك طلبا عربيا لوساطة تركية. أما الحدث الثاني فقد برز حاملا اسم «الوساطة المصرية». ولم يكن هناك أحد يقف ضد وساطة مصرية أو يرفضها، ولكن السؤال برز من تلقاء نفسه: إذا كان هناك وفد عربي ذاهب إلى مجلس الأمن ليطلب وقف النار في غزة، فلماذا المبادرة المصرية إذاً؟ لماذا مبادرة مصرية في الوقت نفسه وفي اللحظة نفسها؟ وظل السؤال يكبر إلى أن برز الاجتهاد بأن المبادرة المصرية ستكون آلية تنفيذ لقرار وقف إطلاق النار. وبدا هذا التوضيح غريبا.

أيام بعد ذلك، استمر فيها العدوان الإسرائيلي على غزة، وكان رقم الشهداء والجرحى يزداد ساعة بعد أخرى. ومع تعاظم الجريمة ظهرت دعوة لانعقاد قمة عربية في قطر، عبر فيها الخلاف العربي عن نفسه بطريقة فريدة من نوعها، لخصها الشيخ حمد بن خليفة حاكم قطر بقوله: كلما اكتمل نصاب القمة كان ينقص. من كان يتدخل ليضغط على هذه الدولة أو تلك لتسحب موافقتها على حضور قمة قطر؟ سؤال ليس له جواب محدد حتى الآن. وهكذا فشلت قمة قطر في أن تكون قمة عربية شاملة، فانعقدت بمن حضر، واتخذت قرارات عبرت عن رأي الذين حضروها. وحمل هؤلاء قراراتهم إلى قمة عربية مقررة ومجمع عليها، هي قمة الكويت. وشهدنا كلنا، كيف أن قمة قطر أصبحت عنصرا إضافيا في الخلاف العربي، بدل أن تكون عنصر تجميع. وتلاقت هكذا في أفق قمة الكويت غمامتان: غمامة التصادم بين الوساطة المصرية ومهمة الوفد العربي في مجلس الأمن، وغمامة التصادم بين فريقين عربيين، فريق قمة قطر التي انعقدت من دون نصاب، وفريق قمة الكويت بنصابها الكامل، وخرجت من مسام هذا العمل السياسي المحتقن، غازات وأبخرة غريبة، حتى أن عود ثقاب واحد كان كفيلا بأن يفجر الوضع بأكمله.

تحدث أمير الكويت، داعيا إلى الوحدة والتفاهم. وتحدث الرئيس السوري (وباعتباره رئيسا للقمة العربية) داعيا إلى الوفاق السياسي، ولكن من دون أن يظهر أن ذلك أمر ممكن. وفجأة برز جلالة الملك عبد الله، وألقى كلمة باسم السعودية كانت الكلمة المنتظرة. قال: نحن ضعفاء ومنقسمون وكلنا مسؤولون عن ذلك. قال: نحن مختلفون ويجب أن ننسى الآن كل خلافاتنا. وذهب فورا إلى مكان إقامته، ودعا إلى لقاء عاجل كسر جليد الخلافات العربية، وكان أبرز ما فيه أن الملك عبد الله بدأ بنفسه، فدعا واستقبل من كانت بينه وبينهم خصومة، طالبا من الآخرين الاقتداء به.

كانت هذه المبادرة ضرورية لإحداث تغيير في واقع الخصومات العربية. ولم يكن سوى الملك عبد الله قادرا عليها، بحكم ما له من مكانة معنوية لدى الجميع. وبرهن في موقفه هذا عن قدرة على التسامي على الخلافات، وعن إرادة للتوحد ضد كل الذين يعملون ضد هذا التوحد. إضافة إلى أن خطابة في القمة، جسد جملة من المواقف الصريحة والإيجابية والواضحة التي يحتاجها العمل السياسي العربي، والقادرة، إذا ما أخذ بها، أن تنتقل بالعمل العربي من حال إلى حال. وبهذا استطاعت مبادرة الملك عبد الله وحدها أن تنقذ القمة، وأن تدفع الخلاف العربي المستحكم نحو طريق التفاهم والتوافق.

رسم موقف الملك عبد الله خطا في الأفق، متوقعا أن الكل سيمد بصره نحو ذلك الأفق، ولكن البعض نظر ولم ير ما كان يراه الآخرون. وذهب إلى لقاءات النقاش والقرار من دون أن تكتحل عيناه ببريق التسامي الذي دعا إليه الملك عبد الله، وطبقه بداية على نفسه. وكانت نتيجة ذلك، روح طيبة دخلت إلى قاعات الحوار، وجلست بين المتحاورين، ولكنها لم تستطع أن تفعل أكثر من ذلك، فبقيت الخلافات مستحكمة، ومنعت هذه الخلافات من تسطير قرارات تعبر عن روح عربية جديدة. لقد منعت مبادرة الملك عبد الله من تفجر الخلاف العربي، ولكنها لم تستطع أن تقود إلى وفاق عربي، وهذه هي، من دون شك، مهمة الأيام المقبلة.

فهناك خلاف عربي حاد، حول مواقف وقوى ومفاهيم، تحتاج إلى درس وإعادة نظر: الموقف الاستراتيجي من إسرائيل وبأي اتجاه سيسير؟ اتجاه المبادرات والتفاوض أم اتجاه الصد والمواجهة؟ الموقف من الوضع الإقليمي، ومن إيران بالذات، هل هو خلاف حتمي مفتوح دائما، أم من الممكن وضع ضوابط له، وما هي هذه الضوابط؟ الطرفان الفلسطينيان المتصارعان في الساحة، هل يتقسم العرب إلى فريقين، فريق مع هذا الطرف وفريق مع ذاك، أم أنه من الممكن فتح طريق ثالث لدفع الجميع نحو موقف فلسطيني موحد؟ وما هي المسؤولية العربية في ذلك؟ المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، هل هي حق مشروع أم لا؟ وما هي ترجمة ذلك حين يقر الجميع بأنها حق مشروع؟ كل هذه الأمور وسواها لا بد أن تدرس، وتناقش، وتوضع بشأنها توصيات، من أجل صياغة استراتيجية عربية جديدة، يقبل بها الجميع، أو يلتزم بها من يقبلها.

وحين يحدث ذلك، تكون مبادرة الملك عبد الله قد اكتملت، وتكون نتائجها قد تبلورت، وتكون إيجابياتها قد عمت، ويختفي أثر تلك الأصوات التي تريد أن يبقى كل شيء على حاله، وكأن جريمة غزة لم ترتكب، وكأن صمود غزة لم يسطر في كتب التاريخ.

إنها مهمة الأيام المقبلة، وضع استراتيجية عربية جديدة تستظل بروح الوفاق والتسامي الذي عبر عنه موقف الملك عبد الله في قمة الكويت.