بأي قلب فعلت ذلك يا سراج؟!

TT

حزنت كثيرا، وأنا أقرأ أن الملحن الكبير سراج عمر دفعه الإحباط إلى التخلص من مكتبته الموسيقية النادرة بإلقائها في مكب النفايات، وأنه يستيقظ كل صباح منتظرا شاحنة نقل النفايات ليقوم بتزويدها بالمزيد من مكتبته الموسيقية العظيمة، التي تضم الكثير من الكتب، والتسجيلات، والنوتات الموسيقية، وكأني بسراج قد بلغ مرحلة تساوى فيها لديه كل شيء، وهو يلعق نفس المرارة، التي لعقها من قبل شاعرنا السعودي الكبير الراحل حمزة شحاتة، حينما عمد في مرحلة من حياته إلى تمزيق قصائده، أو إلقامها النار، معلنا غضبه على كل من تسول له نفسه نشر أي شيء من شعره ونثره.

كنت أتمنى ـ رغم صمت اللحظة ـ أن يدرك سراج أن المجد الفني الذي تحقق له، لو وزع على عشرات الفنانين لكفاهم، وأن زمنا طويلا سيمر قبل أن يولد في ساحتنا الفنية من يقدر أن يقدم لنا مثل: «مقادير»، و«أغراب»، و«أبي منك العذر»، و«ما تقول لنا صاحب»، و«روابي نجد»، و«يا حبيبي أنستنا»، و«مرتني الدنيا»، وغيرها من روائع ألحانه، وليكن سراج على يقين بأنه مهما تعالى الكثيرون سيظل في مركب الفن صاريتنا الشامخة التي تطل على الجميع من عل.

وسراج عمر ليس ملحنا فحسب، بل هو أحد أعمدة الثقافة في الوسط الفني، فرغم كثرة المشتغلين بالموسيقى فإن سراج يتميز عن غالبيتهم بأنه الأوفر إدراكا للتراث، والأكثر انفتاحا على آفاق الموسيقى، حتى ليمكن القول إن مسافة الوعي بينه وبين الكثيرين جعلته غريبا في عيون الآخرين، والآخرون غرباء في عيونه، لذا كان من الطبيعي في فوضى الزمن الفني أن يصمت سراج كما صمت ملحنون بارزون من قبل، أمثال: غازي علي، عمر كدرس، وطاهر حسين، فشموخ الكبار يمنعهم من النزول إلى ملاعب الصغار، والفن السائد اليوم ليس هو الفن الذي عاشوه، فلا قيمه قيمهم، ولا مناخه مناخهم، إذ إن سراجا وأمثاله نبت زمن كان للفن فيه أنفة، وشموخ، وكبرياء، وكان للفنان فيه تاريخ، ومشوار، ومعاناة، ولسراج نصيب كبير من كل ذلك، ولا يمكن لمثله أن يغامر بكل هذا الرصيد ليركض بألحانه خلف أصوات، هي نبت فجائي معلق في الهواء بلا جذور، وهو الذي اعتاد أن يسافر بألحانه مع حنجرة طلال مداح، وأن يرافق بروائعه أشجان فنان العرب محمد عبده، وأن يحمل صوت هاني شاكر «مراسيل» أنغامه، وأن يرسم «ألف فرحة» غناء مع عبد المجيد عبد الله.

أعرف أنه آن الأوان لسراج أن يمد رجليه، ولكن ما لم أستطع إدراكه أن يدفع إلى عربة النفايات كل صباح أجزاء من تعب العمر، وذكريات السنين.

ترى بأي قلب فعلت ذلك يا سراج؟!

[email protected]