تعلّم كيف تقبّل

TT

في حياتنا مسلّمات وكأنها البديهيات، وننسى في خضم عيشنا وكفاحنا أن تلك المسلّمات قابلة للخلل أو الغياب الفجائي دون سابق إنذار أو توقع، ونكتشف عن طريق الصدفة أننا كنا مقصرين بعدم فطنتنا إلى ذلك. وإليكم هذه التجربة الإنسانية التي خاضها رجل عادي، بل أقل من عادي، وهو يحكيها بصدق وخوف لا تخطئه العين ولا العقل. يقول:

كنت في البيت بمفردي وقت الظهيرة أعمل على آلتي الكاتبة، عندما دق جرس التليفون، وسمعت رجلا يسأل: هل أنت تدعى (بل)؟

قلت له: نعم.

وبدأت معدتي تنقبض؛ فقد كان هناك شيء ما في لهجته. وعاد يقول: هذه إدارة الشرطة، يستحسن أن تنطلق فورا إلى المستشفى (الفلاني)؛ لقد أصيبت زوجتك في حادث.

وكانت زوجتي (جانيت) قد خرجت منذ ربع ساعة للذهاب إلى (سوبر ماركت)، وعند انصرافها قبّلتها وأنا شارد الذهن، فقالت في لؤم: إنك لا تعرف كيف تقبّل، ولا حتى مَن الذي تقبّله.

وخرجت وهي تضحك.

سألت المتصل بهلع: هل أصابتها سيئة؟! فقال: لا أدري، ولكن يستحسن أن تذهب فورا إلى المستشفى.

وهرعت إلى الجارة الملاصق منزلها لنا، وهي صديقة حميمة لزوجتي، وأخذت سيارتها وانطلقت. وفي تقاطع طرق شاهدت سيارات متزاحمة، وشاهدت سيارتنا (الاستيشن) متوقفة ومتحطمة بشكل سيئ، والباب المجاور للسائق مفتوح، وكان الناس في كل مكان يقفون وينظرون من نوافذ سياراتهم، وشاهدت تحت السيارة بقعة دم كبيرة، وإلى جوارها زوج من الأحذية مألوف لدي، استقر وسط الطريق بكل أناقة. وصاح بي عابر سبيل: هل قُتل أحد في هذا الحادث الشنيع؟

نظرت إليه في ذهول، واستدرت وضربات قلبي تدق بقوة، وأصبحت محصورا بأرتال من السيارات، وإذا بي أشاهد سيدة من الشرطة، فسألتها إن كانت تستطيع مساعدتي حيث إن زوجتي هي المصابة، وأريد أن ألحق بها في المستشفى. وفعلا أطلقت صوت جهازها قائلة: اتبعني.

وفتحت لي وأنا أسير خلفها مشتتا ومبعثر الأفكار، وكنت أبتهل إلى الله، وأفكر في أطفالي، وكان علي أن أذهب أولا إلى المدرسة الثانوية لإحضار ابني الكبير، ثم نذهب معا لإخبار بناتي الصغيرات، ولكن بماذا نخبرهن؟! هل من الممكن أن نعيش منذ اليوم حياة مختلفة، حياة بلا (أم)؟! لقد كانت هي التي تتخذ القرارات العسيرة في أسرتنا وتنفذها.

ووصلت إلى المستشفى وسألت من كانت في الاستعلامات، فقالت: أنت تريد قسم الطوارئ، سر في هذا الممر الطويل ثم در إلى اليمين.

وانطلقت حتى قرأت كلمة (الطوارئ) مكتوبة بحروف حمراء شريرة، وهناك ستة أبواب تفتح على الممر، ووراء الممر الثاني استطعت أن أرى طرف مائدة طبية، وساقين يغطيهما بنطلون أسود، وهو الذي كانت ترتديه، وكانت هناك ممرضتان تنحنيان فوقها، ودرت حولهما ونظرت إليها. كانت عينا (جانيت) مفتوحتين، ووقع بصرها علي فمدت يديها نحوي وقالت: إنني على ما يرام يا حبيبي، ولكن لا تتركني.

وكانت هذه أروع كلمات سمعتها، فأجهشت بالبكاء وأنا أحتضنها وأقبّلها، فأخذت تضحك رغم جراحها وآلامها قائلة: الآن فقط أثبتّ لي عمليا أنك تعرف كيف تقبّل!

[email protected]