ثلاثة أحداث وقضية واحدة

TT

كان يوم الثلاثاء 21/1/2009 يوما استثنائيا بكل المقاييس، تؤخذ العبر من الأحداث التي سبقت هذا اليوم والتحولات التي ستليه. الحدث الأول هو أن العالم تنفس الصعداء لدى رحيل جورج بوش عن رأس هرم السلطة في الولايات المتحدة، بعد أن سفك دماء الملايين من المدنيين العرب والمسلمين، في الحروب التي شنها، وأذاق الآلاف من العرب والمسلمين صنوف التعذيب في السجون والمعتقلات العلنية والسرية على أيدي جلادي مخابراته، واستهان بكرامة وحرية وحقوق الإنسان لمئات الملايين من العرب، وزرع بذور الخوف والكراهية في أنحاء العالم، كي يبرر لصناع السلاح ترويج تجارتهم بأرواح البشر. وأول ما فعله أوباما يوم الثلاثاء في خطابه، محاولة اقتلاع بذور الخوف وزرع بذور الأمل والحديث عن أتباع جميع الديانات بمساواة واحترام. ولم تغب شمس اليوم الأول على استلامه السلطة إلا ووقع أمرا بإغلاق معتقل غوانتانامو، الذي سيظل هو وأبو غريب، لطخة عار في تاريخ إدارة بوش.

الحدث الثاني شهده العرب في اليوم نفسه، عندما اجتمع قادتهم في قمة الكويت وأعينهم على غزة المحاصرة الصامدة بوجه نيران مجرمي الحرب بفضل سلاح المقاومة، بدأت يومئذ محاولات لكسر الجليد الذي وضعه بوش بين «المعتدلين» وبين أشقائهم، وعمل الجميع على إعادة اللحمة إلى الصف العربي بعد أن تبين للجميع أن فرقتهم وانقسامهم قد أضعفا مواقفهم كلها، التي يجب أن يتخذها الجميع لنصرة أهاليهم في غزة. وبغض النظر عن مستقبل هذه الجهود وصيرورتها فإن الشعور الشعبي العام هو أن قمتي الدوحة والكويت قد استحضرتا نبض الشارع العربي، من المغرب والجزائر إلى السودان وسورية والكويت، إلى طاولة المسؤولين العرب وجداول أعمالهم، حيث لم يعد من الممكن أن تعقد القمم في معزل عن صوت الشعب العربي الذي ترددت أصداؤه في شوارع المدن والعواصم العربية مطالبا بالتضامن القومي من أجل حماية الأهل من عرب غزة، ودفاعا عن كرامة العرب وحقوقهم بكل الوسائل الممكنة.

لقد صنع أوباما تاريخا منذ اللحظة الأولى لتنصيبه، باعتباره الرئيس الأول ذا السحنة السمراء، الذي يدخل البيت الأبيض، لكن قلوب العرب والمسلمين جميعا كانت تحاول قراءة قسمات وجهه والكلمات الأولى التي سينطقها لتعلم أين سيقف هذا الرئيس الشاب الذي خبر معاناة أهله وأجداده من الاضطهاد العنصري، ولتعرف أين سيقف هذا الرئيس أيضا من معاناة العرب في فلسطين من اضطهاد عنصري أشد وأدهى وأقسى مما عرفته البشرية طوال تاريخ الاضطهاد والإبادة. وكي لا يكون التفاؤل ساذجا، ونحن نعرف النفوذ الصهيوني في أروقة السلطة الأمريكية، علينا أن نلاحظ أنه تجنب ذكر العدوان على غزة في خطاب القسم رغم كل جرائم الحرب الدموية، ولكنه عاد بعد يومين وتحدث عن ضرورة فتح المعابر، وفي هذه المرة طالب حماس بالاعتراف بإسرائيل ولكنه لم يطالب بحق عرب فلسطين بالحرية والخلاص من الاضطهاد الإسرائيلي وبحقهم في قيام دولتهم الوطنية، وطالب حماس بإيقاف الصواريخ وهو يعلم أن الأسلحة الأمريكية هي التي استخدمها الإسرائيليون لذبح المئات من الأطفال العرب.

ولكي لا يتنصل العرب من مسؤولياتهم في هذا الإطار فإن سياسة أوباما في الشرق الأوسط ستعتمد إلى حد كبير على موقف بعض العرب من أنفسهم وقضاياهم. وهنا تأتي المناسبة للحديث عن الحدث الثالث الأقل كثافة ولكن ليس الأقل أهمية على الإطلاق. فما إن سكتت مدافع العدوان وتراجعت جحافل الإجرام التي ارتكبت أبشع عملية وحشية ضد المدنيين العزل في غزة، وما إن بدأت عملية انتشال جثث الضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين من تحت أنقاض أبشع عمليات تدمير شهدتها البشرية في القرن الواحد والعشرين حتى رأينا كيف يماطل «المتحضرون» في الديمقراطيات الغربية عن مد يد المساعدة لضحايا جرائم الحرب الإسرائيلية عبر وضع الشروط والشكوك والمبادرات. كما رأينا كيف اختفى الجهد العربي والدولي لتوثيق جرائم الحرب، ونرى كيف يتراجع النظام العربي والدولي عن إبداء أي نية أو فعل ملموس لتقديم مجرمي الحرب من قتلة الأطفال وهم معروفون من طياري سلاح الجو الإسرائيلي، وهم الضباط والجنود والمظليون الإسرائيليون الذين كانوا يبيدون العوائل بيتا بعد بيت في غزة، وهم ضباط وجنود المدفعية والدبابات ومطلقو قذائف الفوسفور الأبيض وقنابل الدايم على المنازل والملاجئ والمشافي والمدارس والمساجد، هم قادة كل هؤلاء الذين أصدروا الأوامر المباشرة بقصف المدنيين، وهم كل من لا يعترف بحماس قوة سياسية منتخبة ديمقراطيا ويتهمها بالإرهاب ليبرر جرائمه ضد الإنسانية. في مقابل كل هذا الإجرام والتخاذل حدثت الانتفاضة العربية الشعبية لنصرة الحق العربي في فلسطين. لم يشهد جيلنا مثل هذه النهضة العربية العفوية على مستوى الشعب العربي ومبدعيه ومثقفيه ومفكريه وهذا هو جوهر المسألة، بغض النظر عن موقف بعض العرب المستعربة، الذي لم يرتقِ إلى مستوى التحدي ومستوى الحدث، المهم هو أن هذا الشعب العربي في أقطاره المختلفة هو الذي سيصوغ مستقبله، ولذلك فالمستقبل أفضل من الحاضر وأفضل من الماضي لأن الصحوة العربية قد بدأت.

سيقول قائل وما فائدة الثقافة والفنون والانتصار للمقاومة ووزيرة خارجية العدو، الملطخة أيديها بدماء مئات الأطفال الفلسطينيين، تجتمع مع وزراء خارجية الدول «الديمقراطية المتحضرة» في الاتحاد الأوروبي، والرئيس أوباما يعلن بعد يومين من تنصيبه التزامه بأمن إسرائيل فقط، وليس بأمن المدنيين الفلسطينيين العزل المحرومين منذ ستين عاما من الحرية والأمن؟.

نعم هناك أصوات «تنادي» بمحاسبة إسرائيل، وهناك من وصف وزيرة خارجية الكيان المجرم في اجتماع بواشنطن بأنها إرهابية، ولكنها المرة الأولى التي لا يمتلك فيها «المتحضرون» الغربيون، وهم دعاة حقوق الإنسان، لغة للدفاع عن جرائم إسرائيل ضد النساء والأطفال الأبرياء في غزة. لا بل إنها المرة الأولى التي يطالب فيها ناشطون من أجل حقوق الإنسان في إسرائيل نفسها باعتقال إيهود أولمرت، وتسيبي ليفني، وإيهود باراك، وماتان فيلاني، وآفي ديشتر، وبن اليعازر، وغابي اشكنازي، ودان حالوتس، وموشي يعالون، وآخرين، باعتبارهم مجرمي حرب مسؤولين مباشرة عن الجرائم التي ارتكبوها ضد سكان المناطق المدنية في غزة. وللمرة الأولى يتجرأ الناشطون من أجل حقوق الإنسان في فرنسا وبريطانيا وفنزويلا وبوليفيا وأرجاء عديدة في العالم على «التحدث» عن رفع قضايا لمحكمة العدل الدولية لإلقاء القبض على المسؤولين والضباط والجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في ارتكاب جرائم الحرب في غزة.

كما أنها المرة الأولى التي تصمد المقاومة الفلسطينية فيها أمام العدوان وهي تقاتل على أرضها، وتصده وتجبره على التراجع، ولكن يجب أن نعمل لكي تكون المجازر التي ارتكبها الإسرائيليون في غزة هي الأخيرة التي يتمكن قادة إسرائيل وجنودها من ارتكابها دون حساب عبر تقديم المجرمين إلى المحاكمة الدولية، وعبر العمل على عدم نسيان هذه المجازر كما حدث في دير ياسين، وقبية، وصبرا وشاتيلا، وجنين وغيرها الكثير.

لا بد من أن نؤرخ صور وأسماء وقصص هؤلاء الشهداء من جهة، وصور وأسماء المجرمين الإسرائيليين وجرائمهم من جهة أخرى، وأن نجعل العالم يتذكر كل عام، وفي كل مناسبة، أسماء وصور أبشع محرقة يشهدها في التاريخ المعاصر، ترتكب بحق الأطفال والأمهات والمدنيين العزل، ويجب أن لا ننسى آلاف الجرحى الذين فقدوا أبصارهم أو أيديهم أو بعضا من حواسهم كي تبقى فلسطين حاضرة في قلوب العالم حتى تتحرر من قيود الوحشية الإسرائيلية.

الدم الطاهر الذي سفكه الإسرائيليون في غزة أصبح هو الحدث، وهو القضية، وهو معيار الخطأ والصواب، لأن دماء غزة انتصرت على قذائف الهمجية الفوسفورية، وقد أبلت بنادق الدفاع الفلسطينية بلاءً أسطوريا في وجه أشرس آلة حرب مدججة بأبشع صواريخ وقذائف الجريمة والعدوان، ولأن أبطالها الحقيقيين بعمر الورود تهفو إليهم القلوب محبةً وحنانا وإكبارا وإعجابا بإيمانهم بدينهم، وصلابتهم في المقاومة وصمودهم على أرضهم.

إنها تجربة عربية فريدة في الكفاح من أجل الحرية والكرامة فلنوثق هذه التجربة ولنشرحها للعالم ولنطالب بمحاسبة المجرمين المسؤولين عن سفك دماء المدنيين في غزة والمسؤولين عن استمرار الحصار وغلق المعابر.

www.bouthainashaaban.com