من حق أكراد العراق تقرير مصيرهم.. ولكن!

TT

أثبتت الأحداث الأخيرة والخلافات بين حكومة المركز والإدارة الكردية أن المعضلة الكردية في العراق لم تكن نتيجة سياسات الحكومات المركزية المتعاقبة وحدها، حيث قاتل الأكراد كل الحكومات العراقية، بمن فيهم أقرب أصدقائهم عبد الكريم قاسم، كما تقاتلوا في ما بينهم مراراً وعلى مدى عقود لأسباب حزبية وعشائرية.

وليس خافياً أن الحركات الكردية المسلحة قاتلت القوات العراقية في أكثر مراحل الدولة حرجاً. وعندما ذهب قادة الكرد الى بغداد، بعد فشلهم في تحقيق أهداف ما بعد حرب الخليج الثانية، استقبلهم صدام وكأن شيئا لم يكن، وبدأ بتقديم العون لأكثر الأطراف تشدداً اليوم، بكل أشكاله، المال والسلاح والعتاد.. ولم تتوقف حركة مراسليهم على مستوى القيادات الى بغداد. ولم تتوقف زيارات القادة العسكريين العراقيين الى مقراتهم الى قبل أيام من حرب 2003. وبرغم ما قيل عن ممارسات صدام حسين تجاه الكرد، ما صح، وما بولغ فيه كثيراً، فإنه حاول الوصول الى حل للمعضلة، الى حد أنه قال لمسؤولين كرد جاءوا الى بغداد عام 1991، اذهبوا واعلنوا دولة كردية، وسأكون من أوائل من يعترف بها، إن وجدتم من يعترف بدولتكم.

وبصرف النظر عن تضارب الآراء، فإن للكرد حقاً في تقرير مصيرهم، ومن حقهم على عرب العراق مساعدتهم في نيل المشروع من حقوقهم، لكن المشكلة أكثر تعقيداً من كل التوصيفات، لأنها تتعلق بـ (أين؟)، فلا يوجد عربي سني واحد، أو عربي شيعي، عدا من يحمل فكراً تقسيمياً، على قلتهم، يوافق على حالة الاحتكاك غير المنصف والتجاوزات على كركوك والموصل وغيرهما، ومحاولات فرض واقع مرفوض وفق كل القياسات المنطقية، ولا يقل الأمر حساسية إقليمياً .

قد لا توجد دولة على شاكلة الدولة العراقية الحالية، حيث لا سيطرة للحكومة المركزية على «كل» ما يجري في إقليم كردستان، وإذا ما طبقت برامج الأقلمة على المحافظات الأخرى وفق التجربة الكردية وعدوى (المفاصلة)، فلا مجال لبقاء العراق. لأن المال العام (الحكومي) العراقي سينتشر استخدامه في تفكيك العراق، وهي حالة فريدة وغريبة.

بناء الدولة على أسس وضعت صيغة لدستور تحت نيران الهاونات والصواريخ والعبوات الناسفة والسيارات المفخخة وموجات الانتحاريين وعمليات الاغتيال ولوائح التهديد والضغط الخارجي، لا يمكن أن يكون بناءً سليماً، وكلما تعالى البناء على قواعد ضعيفة تزايدت احتمالات انهياره. وأن ما يقال عن أن ما يمر به العراق مسألة طبيعية لمرحلة بناء ديموقراطي، يعد تبسيطا أو ذرّا للرماد في العيون. فالعراق يمر في مرحلة يمكن ان تؤدي الى تمزق أكثر خطورة، إذا لم تتضافر جهود قوى الخير العربية والكردية.. ولا بد أن يضطلع الكرد بمسؤولية تاريخية تجاه العراق الذي عاشوا فيه قرونا طويلة. كما أن أمانة القيادة السياسية العليا في بغداد تحتم على الأشخاص الذين يتولونها اتخاذ قرارات حاسمة ضمن مبادئ منصفة، لمنع تشرذم بلادهم وتركها فريسة للتمزق الداخلي.

بعد سقوط النظام تقدم رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني بمبادرة جيدة لعقد مؤتمر للمصالحة الوطنية في صلاح الدين، حظيت باستجابة عربية مهمة، مع أنها اصطدمت بغياب العلم العراقي الذي استبدل بعلم كردستان. لكن مع مرور الوقت، بدت علامات الشك تظهر من خلال التصرف الكردي، وأصبح ما يدل على أن تفكيك الوحدة الوطنية وسيلة لبلوغ هدف كبير أمراً مثيراً. وروج مسؤولون كرد عملياً لمظالم لا حصر لها، لم تغب المبالغة المفرطة عن بعضها، لوضع أسس للمفاصلة، لم يدرك مسؤولون عراقيون خطورتها على الروابط الوطنية، ولم يتحسبوا لها، وأخذ الأمر كقميص عثمان ضد النظام السابق لا أكثر! تحت طائلة قاعدة (المنتصر بفعل الغير، والمهزوم بسبب غيره).

ولم يكتف المتشددون من المسؤولين الكرد بحرصهم على نظام فدرالي خاص بهم، بل عملوا على أقلمة العراق لشرذمته وتقسيمه، فشجعوا ودعموا علنا كل مدع بأن الأقاليم هي الطريق الصحيح لتقدم العراق، لأنهم يرون في تفتيت العراق خيارا لمولد دولة عسيرة، خصوصاً بعد أن توقفت الحرب الطائفية المسيّسة. ووقف العديد من السياسيين لفترة طويلة كأنهم مضروبون على رؤوسهم لا يعرفون ماذا يفعلون، وتحولت مرجعيات عراقية سياسية ودينية الى أصنام لا تقدم شيئاً ولا تؤخر.

هكذا يمر العراق في واحدة من أخطر مراحل تاريخه الطويل، وأصبح من واجب المرجعيات السياسية والإعلامية والدينية التصدي لكل أشكال التقسيم ومشاريع الأقلمة، وفي غير ذلك ستخرج أيادي الطامعين من خارج البلاد وداخلها، من أكمامها، وتدور حروب تلحق ضررا بأمن العالم.

مرة أخرى، من حق الكرد على إخوانهم العراقيين مناصرتهم في أخذ حقوقهم كاملة، لكن ليس على حساب واحدة من أعرق دول العالم.. ورفع الشعور بالمظالم لا يتحقق بظلم الآخرين، وسيفشل، وما أعظم وأجمل دعاء : اللهم لا تجعلني ظالما ولا مظلوماً.

[email protected]