«وصفة عبد الله» للتوعك العربي

TT

لولا إنجاز وقْف إطلاق النار وبدء الانسحاب الإسرائيلي من غزة لما كان ربما لـ«القمة العربية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية» أن تنعقد بل إن نسبة الغُيَّاب ستكون كثيرة واحتمالات التفجير داخل قاعة الانعقاد ستكون أكبر.

ولولا السعي المخلص والصامت من جانب أمير الكويت الذي هو «أمير التخريجات» في عز الأزمات الشيخ صباح الأحمد الصباح لتحويل القمة إلى حدث استثنائي في ما يخص رأْب الصدْع، ما دام الذين شاركوا كانوا تسعة وتسعين في المائة من الدول الأعضاء مع استغرابنا لعدم مشاركة البعض من القادة وإيفادهم مَن يمثِّلهم.. إنه لولا السعي الأحمدي لكانت القمة انتهت مجرد لقاء شارك فيه القادة وصدورهم ملأى بالعتب والغضب.

ولولا أن الملك عبد الله بن عبد العزيز لم يطْلِق مفاجأته في شأن إعادة التآلف إلى القلوب العربية مستحضراً رضا رب العالمين عن الكاظمين الغيْظ أمثاله من بعض ناكري جمائله ومبادراته من أجل التوفيق بين الأشقاء المتنافرين ومن أجل إبقاء الموقف العربي من إسرائيل تحت سقف الثوابت، لما كان للقمة التي استضافتها الكويت (الاثنين 19 والثلاثاء 20 يناير/كانون الثاني 2009) أن تتحول خلال دقائق استغرقتْها كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى حدث تاريخي قياساً بالظروف الراهنة، ثم جاءت ترجَمَتها وضع الخلافات جانباً والبدء بعلاقة يمكن أن تحقق الكثير في حال لازمها الصدق وعدم المكايدة والاجتهاد وبحيث يعرف كل طرف حدوده ولا يتجاوز وزنه إقليميا ودوليا.

وإذن فإن الفضل لما آلت إليه الأمور وتحقيق خطوة نوعية على طريق الوفاق والتضامن يعود لذويه القادة الثلاثة: الرئيس حسني مبارك الذي حقق للغزَّاويين وقف العدوان عليهم وذلك من خلال القمة التي استضافها في «شرم الشيخ» عشية انعقاد قمة الكويت، مسجلا في ذلك خطوة عربية - دولية غير مسبوقة إذ ليس مسبوقاً أن يوجِّه الرئيس مبارك الدعوة إلى قمة دولية عاجلة إلى أبرز الرؤساء الأوروبيين مثل ساركوزي وبراون وبرلسكوني وثاباتيرو ومستشارة ألمانيا ميركل ورئيس وزراء تشيكيا الذي تترأس بلاده حالياً الاتحاد الأوروبي والرئيس التركي عبد الله غول إلى جانب الملك عبد الله الثاني والرئيس محمود عباس والأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، وخلال ساعات يلبي هؤلاء الدعوة وتنعقد في شرم الشيخ يوم الأحد 18-1-2009 قمة لا تستهدف المكايدة ولا بعثرة الصف ولا المزايدة، وإنما تحميل المجتمع الدولي مسؤولية تثبيت وقْف إطلاق النار والتهدئة وانسحاب إسرائيل من غزة. وبجهود ملحوظة أمكن تحقيق ذلك وجاء مبارك إلى الكويت ليقول ما معناه لمضيف القمة الشيخ صباح الأحمد وكبير الأمة الملك عبد الله بن عبد العزيز: لقد فعلتُ كل ما في الاستطاعة وبات المجتمع الأوروبي شاهداً على ما قامت به مصر التي رماها الحاسدون والماكرون والحاقدون من كل صوب بسهام مسمومة يريدون شراً بها وتحويلها إلى عراق آخر من دون أن يأخذوا في الاعتبار أخلاقيات التعامل. وبعد الإنجاز الذي حققناه يبقى عليكما إنجاز الشق الآخر من مأساة التوعك العربي.

وجاءت كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز تفاجئ الجمع العربي الملتئم في الكويت. وهي مفاجأة لها صفة الهدية من كبير الأمة إلى الشعب العربي، يتجاوز معناها بكثير مفهوم المصالحة التقليدية بين عاتب ومعتوب عليه. فهي لو كانت تندرج في هذا المفهوم لكان أمكن تدبيرها في صيغة مختلفة. والقول بأنها هدية إلى الشعب العربي على أساس أن التوعك الذي استبد بمفاصل الأمة بدأ يترك تداعياته على النفس العربية. وفي هذه الحال تأتي العزائم على قدْر أهل العزْم وهو هنا الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي نفترض أنه بالعفوية والإحساس الوطني العالي والخشية الدائمة على المصير، شعر أن الأمة بصغارها وكبارها وبالذات شعب سورية وجماهير «حماس» داخل غزة وخارجها، ترنو شاخصة الوجدان نحوه تنتظر منه في أي لحظة موقفاً إنقاذياً كبيراً خصوصاً أنه صاحب المواقف العلاجية في استمرار للتوعك العربي. هكذا فعل في القمة العربية الدورية في بيروت يومي 28 و29 مارس / آذار 2002 عندما حاول استعادة العراق الصدَّامي إلى جادة الصواب بدءاً بتشجيع عزت الدوري الذي مثَّل الرئيس صدَّام حسين في القمة على الانخراط في عملية مصالحة أمير الكويت الذي أساء العراق الصدَّامي إليه وإلى شعب العراق نفسه، وإلى شعب الكويت. ولو أن عراق ذلك الزمن قرأ السعي بنسبة من الواقعية ثم رد على التحية بمثلها لكانت أمور كثيرة تبدَّلت وربما ما كان ليصيب العراق ما أصابه بعد ذلك. وإلى ذلك فإنه في القمة نفسها جعل رموز الفريق الثوري المتشاوف والحالم يتفقون مع إخوانهم السائرين في ظل التعقل والتقليل من الصوت العالي ويرى هؤلاء مجتمعين أن المبادرة التي يطرحها عبد الله بن عبد العزيز هي السقف الواقي من الاختراقات وأنها تشكل ما هو مزيج من الواقعية والرومانسية في النظرة إلى الصراع العربي - الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. ومن حيث إحساس الرأي العام العربي بالطمأنينة النسبية يجوز تشبيه الوضع زمنذاك بعد إعلان الموافقة بالإجماع على المبادرة التي باتت تحمل تسمية «المبادرة العربية» والتي تم إحياؤها ونفْض الغبار عنها خلال القمة العربية الدورية في الرياض عام 2007، بالوضع السائد قبل أن يُطلق الملك عبد الله مفاجأته المثلثة التوجه وحسب التسلسل: مأساة غزة أولا. وثانيا إبلاغ المجتمع الدولي وإسرائيل بأن المبادرة لا يمكن أن تبقى على الطاولة إذا كان لن يتم التعامل معها بجدية، والأرجح أن طوني بلير ممثل اللجنة الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط سمع من الملك عبد الله لدى الاجتماع إليه في الرياض قبل مغادرة الملك إلى الكويت كلاماً أكثر حزماً في هذا الشأن وعلى خلفية قول بلير تعليقاً على ما ذكره الرئيس بشَّار الأسد في مؤتمر الدوحة من أن المبادرة بحكم الميتة، حيث إن بلير يرى أن «المبادرة لم تمت لكنها تتطلب تأكيد جميع الأطراف مبدأ قيام الدولتين». وثالثاً تجاوز خلافات الماضي والبدء بالعلاقة العربية على بياض.

وإذا كانت المبادرة حظيت في قمة بيروت بإجماع القادة المشاركين فإن مفاجأة الملك عبد الله في قمة الكويت حظيت بترحيب المشاركين كونهم فريقين من القادة: فريق ذهب أفراده بعيداً في اجتهادات تتسم بعدم التروي فأدى ذلك إلى تصدُّع في الصف وريبة في النفس، وهؤلاء كانوا في انتظار من ينقذهم من رهان خاسر سلفاً. كما أنها حظيت بإجماع شعبي عارم في صفوف الغزَّاويين الذين أُسيء استعمالهم على مدى ثلاثة أسابيع حطباً في نار الإيهوديْن الشِرِّيريْن: أولمرت رئيس الحكومة نصف المتوارية وباراك المتطلع إلى الترؤس على أنقاض جريمة العصر وثالثة الأشرار تسيبي ليفني التي ما زلنا مثل إخواننا شعب مصر مصدومين من رقة وزير الخارجية أحمد أبو الغيط في مساندتها كي لا تتعثر على السلم عندما زارت القاهرة وتصرفت لفظاً بالكثير من قلة اللياقة. كما أن مفاجأة خادم الحرمين الشريفين المهموم ليل نهار بحال الحَرَم الثالث الأسير والأخ البار بفلسطين ماضياً وحاضراً وأبداً حظيت بالترحيب، في صفوف الألوف من جماهير حركة «حماس» الذين باتوا مقتنعين بأن قياديي الحركة المقيم منهم والمغترِب استُدرجوا إلى ما هو ليس لمصلحة الحركة والقضية عموماً. وهنا نجد الجواب عن دوافع الترحيب الفلسطيني برؤية عبد الله بن عبد العزيز ونخوته ونفترض وجود نسبة عالية من اللوم في ثنايا الترحيب لأن القياديين لم يفوِّتوا فقط على الشعب الفلسطيني فرصة الاستفادة من اتفاق مكة الذي أعطاه خادم الحرمين من الوقت والحرص والمتابعة عن قرب ما يعطيه عادة للقضايا الكبرى، وإنما استبدلوا مسعى الخير بالرهان الذي له طابع العناد. لكن مع ذلك فإن الملك عبد الله بن عبد العزيز لم يتوقف عند استغراب أطراف كثيرة لتمنياته الترفق بـ«حماس» على رغم نقْضها الاتفاق الذي رعاه. أما لماذا لم يتوقف فلأنه لم يبذل ما بَذَلَه من أجل أشخاص وإنما من أجل قضية وشعب. وها هو في قمة الكويت يؤكد ذلك كاظماً الغيظ وفي الوقت نفسه فاتحاً صدر المملكة أمام مَن يرى أن مصلحته هي في سلوك الصراط المستقيم.

وما يفعله عبد الله بن عبد العزيز ينسجم مع النهج الذي رسمه والده الملك المؤسس طيَّب الله ثراه. وهو نهج تعامَلَ كل واحد من الأبناء الملوك الراحلين فيصل وخالد وفهد معه بالأسلوب الذي يعكس شخصية كل منهم. ولعلنا نتذكر هنا أسلوب الملك فيصل في قمة الخرطوم عام 1967 حيث كان المبادر إلى نجدة الرئيس جمال عبد الناصر ومساندته في مداواة جراح العدوان الإسرائيلي متجاوزاً بهذه المساندة المواقف غير الودودة من جانب الحقبة الناصرية ضد المملكة. كما نتذكر موقفاً في منتهى النخوة من جانب الملك خالد لدى الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران تمحْوَر حول تداعيات عدوان إسرائيل على مُفاعل تموز العراقي. ونتذكر أيضاً وقفة الملك فهد في قمة فاس لجمْع الصف حول رؤية عربية مشتركة للصراع العربي - الإسرائيلي. ثم تأتي القمة العربية الدورية في بيروت عام 2002 تشكل انطلاقة نوعية في أسلوب عبد الله بن عبد العزيز في معالجة تداعيات التصدع في الصف العربي وهو أسلوب يأخذ منذ ذلك الحين تنوعاً في الوصفات وكأنما خادم الحرمين الشريفين هو الطبيب الذي يداوي الحالات الطارئة واضعاً إياها كخطوة إنقاذية سريعة في غرفة العناية الفائقة.

يبقى القول إن أهمية الوقفة الجديدة للملك عبد الله بن عبد العزيز أو فلنسمِّها بلغة أهل الطب «وصفة عبد الله للتوعك العربي»، هي أنه لولاها لما كان لهذا الإحساس بالطمأنينة يتسرب إلى النفوس العربية التي كانت حالها مثل حال منازل طال انقطاع التيار الكهربائي عنها، وفجأة طَرَقَ الأبواب مِن يحمل شموعاً تبدد بعض الشيء من الظلمة في انتظار إصلاح ذات البيْن وعودة الضوء الساطع إلى ديار الأمة. وهذا هو التحدي بالنسبة إلى أبو متعب الذي يدعو له بموفور الصحة وطول العمر كل بيت عربي.. وبالذات بيوت إخوانه الغزَّاويين الذين يرون ولا شك ضمناً أن «حماس» في أشد الحاجة إلى حركة تصحيحية يمارس فيها القادة نقداً ذاتياً وليس الاكتفاء باعتبار الكارثة كانت «نصراً إلهيا». ومن هنا يبدأ العلاج الصحيح.. والشافي الذي يكمل مداواة عبد الله بن عبد العزيز والخلصاء من قادة الأمة الذين شاركوا في قمة الكويت ومعهم الأمين العام للأمم المتحدة للمحنة الكبرى.

وفي انتظار ما يؤكد حُسْن النوايا نتطلع إلى أن تبدد القمة العربية الدورية في الدوحة بعد حوالي شهرين وعلى خلفية الأجواء الطيِّبة في القمة الاقتصادية - التصالحية في الكويت، الغيمة الثقيلة التي ارتسمت في سماء العلاقات العربية من جرَّاء مؤتمر كنا في غنى عنه.. ذلك أنه مثلما ما هكذا تورَد الإبل، فإنه ما هكذا يُعالج حال الفلسطيني المقموع والمعتدى عليه.