نجاح الأيام الـ100 الأولى من رئاسة أوباما.. أول ما يحتاجه العالم

TT

بصوت يتراقص ابتهاجا، كعادتها عندما تسمع خبرا مفرحا، اتصلت بي صديقة أميركية عزيزة جدا من زملاء الدراسة، هاتفة: «هل تتابع الـ(سي.إن.إن)؟ أسمعت بما فعله الرجل مجددا؟!».

فأجبت: «أتقصدين خبر ترخيص إدارة الأطعمة والأدوية الاتحادية لإحدى شركات أبحاث الخلايا الجذعية، بمباشرة العمل في مجال التطبيق العلاجي؟».

فردت: «نعم، إنني لا أكاد أصدق «ديناميكية» باراك أوباما وتعجله طي صفحة إرث جورج بوش الثقيل». ثم أردفت بحماستها وعفويتها: «تذكر جيدا كم كنت قلقة من ترشحه. كنت متشوقة لذهاب بوش وجمهورييه وإنجيلييه المتخلفين، لكنني لم أكن واثقة من أن أميركا جاهزة لانتخاب أوباما رئيسا. أما الآن فأنا فرحة لسببين: الأول أننا كسبنا رئيسا ديناميكيا ورؤيويا، والثاني أن ظاهرة أوباما أعادت إلى أميركا روح الثورة في بلد قام أصلا على التفاؤل بالمستقبل».

كان هذا الحوار ثالث حوار هاتفي بيننا، منذ أدى الرئيس الأميركي الجديد القَسم الدستوري.

الأول كان قصيرا وبليغا: «عزيزي، لن أطيل عليك الحديث، فالدموع تطفر من عيني. اتصلت بك فقط لأقول إن اليوم هو أسعد أيام حياتي. هل كنت تتصور أن يقسم رئيس أسود، جزء من اسمه حسين، اليمين رئيسا لأميركا أمام مبنى الكابيتول؟! نحن الآن في عالم آخر!».

وجاء الثاني بعد إعلان تعيين جورج ميتشل موفدا للشرق الأوسط. وبسعادة غير مكبوتة قالت: «أكاد لا أصدق! إنه منطلق بلا تردد! بالأمس أوقف الإجراءات القضائية في غوانتانامو، واليوم يعيّن أحد أفضل رجالنا وأكثرهم مصداقية وخبرة في المفاوضات، موفدا للشرق الأوسط.. إنه فعلا يريد أن يفعل شيئا».

قد تكون الصديقة استثناء، لكن يبدو أن الرئيس أوباما يعرف ما يريد، ويدرك أن «شهر العسل» مع الشعب الأميركي، الذي فوضه في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قد لا يطول أكثر من الأيام المائة الأولى، ما لم تظهر بشائر، ولو محدودة، لتوقف الانهيار المالي والاقتصادي.

أوباما، أصلا، لا يمثل كل أميركا، والتفويض في الديمقراطيات الحية مؤقت، يعطيه الشعب ويسحبه تبعا للنتائج الملموسة بعد الوعود المقطوعة.

وكمتابع متواضع للسياسة الأميركية منذ عقود، كنت مثل الصديقة والزميلة، متشككا في جاهزية أميركا للتغيير. فقبل أربع سنوات فقط فاز بوش في الانتخابات الرئاسية على منافسه الديمقراطي جون كيري، بفارق مريح من الأصوات الشعبية، وكسب عدة ولايات سبق لها أن صوتت لبيل كلينتون في معركتيه الرئاسيتين عامي 1992 و1996. ثم إن أوباما، ابن السابعة والأربعين، شكّل بترشحه المفاجئ «ثورة» - في بلد نسي معنى الثورات منذ زمن بعيد - سواء لجهة خلفيته الاجتماعية، أو خبرته المحدودة في دوائر القرار السياسي، خاصة أنه لم يكمل فترته الأولى في مجلس الشيوخ. كما أنه عندما خاض معركة الانتخابات التمهيدية للترشح عن الحزب الديمقراطي كان يواجه هيلاري كلينتون. هيلاري، المرأة الذكية الحديدية، التي ألِفتها أميركا من المحيط إلى المحيط، «سيدة أولى» مفوهة ولامعة، ثم سناتورة عن نيويورك، أكثر ولايات أميركا إشراقا ووجاهة.

وحقا، عندما كان أوباما يجمع المندوبين جولة بعد جولة في الانتخابات التمهيدية، كان متابعون مثلي يعتبرون أنه يجمع مندوبين من ولايات مضمونة للجمهوريين، يستحيل أن تصوت للديمقراطيين في المعركة الحقيقة الحاسمة في نوفمبر (تشرين الثاني)، أي أنه يجمع أصواتا «محروقة» لا قيمة لها. وهنا يمكن التذكير بأنه باستثناء ولاية إيلينوي (الولاية التي كان يمثلها في مجلس الشيوخ)، انتزعت هيلاري معظم الولايات «الديمقراطية» الكبرى، ككاليفورنيا ونيويورك وبنسلفانيا وماساتشوستس.

غير أن الأزمة المالية التي أطبقت على أميركا والعالم، بجانب إخفاقات السياسة الخارجية الخرقاء، أقنعت كثيرين من الأميركيين بأن البلاد ربما غدت مهيأة - بل محتاجة - لعلاج راديكالي. كذلك كشف أوباما طوال الحملتين، التمهيدية (الديمقراطية) والرئاسية، عن كياسة ونضج يستحقان الإعجاب، ونجح برصانته واتزانه وجذبه الجماهيري وتشديده على شعار «التغيير» في تفادي الأخطاء التي كان معرّضا - أو مستدرَجا - لارتكابها. وأيضا - وهذا أمر مهم جدا - نجح في إقناع الملايين من الناخبين السود أن لهم في البلد ما لغيرهم، وبالتالي ما عاد مقبولا أن يستكينوا للسلبية والاكتفاء بالشكوى.

وجاءت النتيجة تاريخية بكل المقاييس، فقد حسم الصوت الأسود معارك ولايات محافظة كبيرة كانت جمهورية سابقا، كفيرجينيا ونورث كارولينا وإنديانا، واكتسح الشاب الأسود الكيني الأصل في الوقت نفسه ولايات بيضاء بالكامل تقريبا، كفيرمونت ونيوهامبشير وماين.

ومنذ نوفمبر (تشرين الثاني) عكف أوباما بروية وذكاء على إعداد طريقة تطبيق خططه، وبناء «فريق عمله» المولج بالتطبيق، وكانت خياراته لافتة في عدة مواضع، من الاختيار المثير للجدل لزميله وصديقه النائب رام إيمانويل، ابن الطبيب الإسرائيلي المحافظ، ليكون رئيس جهاز مساعديه، إلى الإبقاء على وزير الدفاع روبرت غيتس الموروث عن إدارة بوش، وتجاوز «الحواجز» الحزبية لتعيين الجمهوري اللبناني الأصل راي لحود (مثل إيمانويل، أحد نواب إيلينوي في الكونغرس) وزيرا للنقل.

وبعد التعيينات الاقتصادية المهمة، جاء اختيار هيلاري كلينتون لتولي دفة الشؤون الخارجية «ضربة معلّم»، مع توقع لعبها دورا ناشطا بالتنسيق مع الرئيس ونائبه المخضرم الخبير جو بايدن. ثم كان تعيين الموفدَين الخاصّين للشرق الأوسط (جورج ميتشل «صانع» سلام أيرلندا)، وباكستان / أفغانستان (ريتشارد هولبروك «مهندس» سلام البوسنة)، في الأسبوع الفائت، دليلا إضافيا على جدية الإدارة الجديدة في اعتماد مقاربات نشطة لأزمات النقاط الساخنة في العالم، بالرغم من التحديات المالية والاقتصادية الداخلية. بل كانت اتصالات أوباما الهاتفية مباشرة بُعيد أدائه القَسم تأكيدا حيا لهذه الجدية. كثيرون يمسكون قلوبهم بأيديهم، وآخرون ينصحوننا بألا نتوقع العجائب، وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضا أن العالم بحاجة إلى أمل، بحاجة إلى التغيير.. و«خير البر عاجله».