«مطر حزيران»

TT

عندما بدأت حرب 13 نيسان 1975، كنا نتناول الغداء في منزل صديق في بلدة عيناب. وعيناب بلدة مشتركة من الدروز والمسيحيين، انضم إليها عدد من المسلمين. والصديق المضيف كان مسيحيا متزوجا من شيعية. وأما الضيوف فكانوا خليطا من الأصدقاء والطيف والجنسيات العربية التي نسيت في لبنان أصولها، لكثرة ما هو بلد مرحّب.

عدنا من الغداء بعد الظهر فوجدنا الطرقات تحترق بالدواليب. وعندما وصلنا إلى بيوتنا عرفنا أن بوسطة محملة بالفلسطينيين تعرضت لمذبحة في عين الرمانة. وقلت لزوجتي هذا حريق لا مذبحة، فماذا يأخذ بوسطة ركابها فلسطينيون إلى منطقة تحتفل بتدشين كنيسة؟

رحت أتأمل، بكل وعي وأسى وحزن، كيف ستبدأ هذه الألفة الإنسانية الجميلة بالتوحش. وأول ما شاهدته في اليوم التالي كيف انقلب أهل الحي على عائلة فلسطينية تقيم هناك منذ 1948. ذهبت إلى المكتب فوجدت الرشاشات تتدلى من أيدي الشبان كأنها جزء من القميص المرخي. وبعد قليل قامت الحواجز، ثم الخطف، ثم القتل.

كنت أتأمل، في أسى وفجيعة، مدى عطوب النفس البشرية وضعفها وتأثرها بأي ريح. فقد أدركت ذلك المساء، بعد غداء عيناب، أن صورة الغداء لن تتكرر. وسوف تحل الغرائز محل التحضر، والحقد الصغير محل الحب الكبير، وفئة الدم مكان فئة العقل. ولم يعد لبنان، بالنسبة إليَّ، سوى مجموعة أشخاص في رواية قائمة على التحليل النفسي، يحاول مؤلفها الغوص في مكامن النفس الغريبة، ومدى استعدادها للتوحش وللقسوة والانقلاب على ما كانت عليه.

أقرأ الآن، بإعجاب شديد وأسى عميق، رواية «مطر حزيران» للكاتب جبور الدويهي (دار النهار) التي يعيد فيها رسم المجزرة التي وقعت في بلدة مزيارة عام 1957، عندما تحولت كنيسة البلدة إلى مقتلة بالرصاص بين أبناء عائلات زغرتا المجاورة. اقرأها وأنا أعيد تأمل ما حدث في لبنان الحرب، على نطاق أوسع. وبأسلوب سردي، تفصيلي، مذهل، وفي مناخ مشابه لمناخات غارسيا ماركيز، يعرض الدويهي أبطاله بأمسياتهم وعاداتهم ومسدساتهم ووجبات العشاء والقطط أمام البيوت. ملحمة بشرية تستند إلى الوقائع الواردة في قرار ظني رسمي، أحالتها الدولة إلى رفوف النسيان، وحوّلها الدويهي إلى تحفة فنية.