إخفاق المشروع «الجهادي»

TT

باختصار شديد، الإسلام السياسي المعاصر حركات دينية متفقة في الغاية. مختلفة في الوسيلة. الغاية واحدة. الهدف المشترك إقامة دولة دينية في العالم الإسلامي. التباين في الوسيلة يتراوح بين اعتماد الجهاد الحربي بالعنف والسلاح عند بعض هذه الحركات، واستخدام الدعوة والدعاية والسياسة عند حركات أخرى.

في هذا الفرز المختصر، يصبح من السهل تناول مشروع حركات

«الجهاد الحربي».

الكارثة التي حلت بغزة تفرض اليوم النظر بإمعان في مشروع الجهاديات الحربية التي هي على وجه التحديد، النظام الإيراني التيوقراطي (حكم رجال الدين) وامتداداته الشيعية في العراق (الأحزاب الدينية الحاكمة والمهيمنة) وفي لبنان (حزب الله) وامتداداته السنية (حماس والجهاد). ثم الحركات السنية الحربية «المستقلة»، طالبان والشيشان و«القاعدة» وامتداداتها في المغرب العربي وباكستان والهند واليمن.

بعد إخفاق المشروع القومي العربي في المواجهة مع إسرائيل، سجل المشروع الجهادي الإسلامي نجاحات باهرة منذ سبعينات القرن الماضي، سحبت أميركا الشاه من التداول، وسلمت إيران إلى نظام الخميني التيوقراطي. جندت أميركا حركات السنة الجهادية ضد السوفيت في أفغانستان، لبنان، كسبت إيران حربها المخابراتية ضد المخابرات الغربية (حرب الرهائن) وكسبت حربها الاستشهادية من خلالها ذراعها (حزب الله)، وبدعم من سورية تم إجبار القوات الأميركية والفرنسية ثم الإسرائيلية على الانسحاب. بلغت النجاحات الذروة بقيام نظام طالبان في أفغانستان، وبعملية «القاعدة» في نيويورك.

هذه النجاحات لم تقرب المشروع الجهادي الحربي من هدفه في إقامة الدولة الدينية الكبرى. بل ما لبث المشروع أن تعرض إلى انتكاسات مريرة، هزيمة الجهاديات الحربية في المواجهة مع النظام العربي في سورية الأب، وعراق صدام، وفي مصر والسعودية والجزائر والسودان. إسقاط أميركا بوش لنظام طالبان. تدمير روسيا بوتين لجهادية الشيشان. انكفاء «القاعدة» من خرائب أفغانستان إلى مجاهل باكستان.

في المقارنة، اختلفت بدايات الألفية الميلادية الثانية عن بدايات الألفية الميلادية الثالثة. شهد الإسلام آنذاك نضجا عقلانيا تجلى بانفتاحه وتسامحه الثقافي والحضاري، فيما تشهد المجتمعات الإسلامية اليوم «أسلمة» واسعة، لكن مع تفسير سياسي واجتماعي للدين في غاية الانغلاق المتزمت والتطرف الرافض للعالم.

من خلال هذا الترويج المنغلق «لأسلمة» المجتمع الذي تمارسه حركات ومرجعيات «الإسلام الدعوي» التقليدي والإخواني، انتهز النظام «الجهادي» الإيراني الفرصة للانطلاق في غزوة متجددة، هذه المرة للعالم العربي بالذات، مستعينا بأذرعه العربية الشيعية والسنية. في مواجهات حربية غير متكافئة مع إسرائيل. أثار هذا الاستغلال المبرمج عواطف العرب الفلسطينية الجريحة. أما الغرض الحقيقي فقد كان فرض هيمنة فارسية مطعمة بنكهة الإسلام الشيعي، على الخليج والمشرق العربيين.

هل نجح المشروع الجهادي في المواجهة مع إسرائيل؟ المشروع «الجهادي» الشيعي/ السني يسجل انكفاء يصل إلى حدود الإخفاق المريع في المواجهة مع إسرائيل. ثم تحييد حزب الله الإيراني في لبنان، بدفعه إلى ما وراء حدود الاشتباك مع العدو التي رابطت عليها قوات دولية. بل دمج الحزب في حكومة «وحدة وطنية» مع خصومه السياسيين.

ظهر واضحا إخفاق المشروع «الجهادي»، بعد تحييده، في عجز قيادته الإيرانية عن نجدة حماس بصواريخ نجاد مباشرة من إيران، أو بصواريخ حسن حزب الله من لبنان. بل لم ينفع إسناد قطر وسورية للمشروع الجهادي.

استعارت الجهاديات الحربية من النظام العربي قدرته الدعائية الفائقة على قلب الهزائم انتصارات. توج خالد مشعل جبين هنية بغار الشوك المُدَمَّى بدماء 1.5 مليون إنسان فلسطيني. تبعت مشعل جوقة «النصر» في إيران ولبنان وسورية و«الجزيرة». بصلافة المكابرة المغطية على الهزيمة، هون مشعل على غزة أرواح شهدائها. «يا بلاش»! أربعة آلاف يورو تعويضا عن البيت المدمر. ألف يورو فقط للإنسان الذي غاب!

لماذا الحطام أغلى من الإنسان في شرع المشروع «الجهادي»؟ لأن دفع المجتمع المدني البريء والمسالم إلى مقدمة المواجهة مع العدو، يندرج في صلب المشروع «الجهادي». في فلسفة هذا المشروع، أستطيع أن أقول إنها تقوم على نظرية «الاشتباك المستمر» مع العدو، من خلال اختباء «المجاهدين» في الموقع المدني الذي يتلقى بالنيابة عنهم وطأة انتقام عدو همجي.

هذه الفلسفة الجهادية ترتكب أخطاء سياسية ومدنية جسيمة. المشروع الجهادي يلغي تماما السياسة. لا استغلال هنا للظرف السياسي المناسب أو غير المناسب للاشتباك. لا تقدير دقيقا لقوة العدو ورد فعله ضد المجتمع المدني. خسرت الجهادية الشيشانية حربها مع روسيا، لأنها لم تدرك أن الإنسان، في أحيان كثيرة، أغلى من الوطن، أغلى من المقاومة عندما تصبح مستحيلة ومكلفة بشريا. منحت روسيا دول آسيا الوسطى استقلالها بعد تفكيك الإمبراطورية السوفيتية. لكنها لا تستطيع منح أقليات الحكم الذاتي في القفقاس استقلالها. الاستقلال سيحرك أكثر من مائة أقلية أخرى داخل روسيا بحيث تدمرها كوطن وأمة ودولة كبرى.

في فلسطين، الوضع يختلف. هنا احتلال غاشم تفرضه دولة مهاجرة مستوطنة بالقوة. غير أن الجهادية الحماسية في إلغائها السياسة، عجزت عن دراسة الداخل الإسرائيلي لتختار الوقت المناسب للجهاد. ثم عجزت مرة أخرى عندما لم تحسب مدى ما تستطيع همجية السلاح الإسرائيلي المتفوق أن تفعل في مجتمع عربي أعزل ومحاصر. ثم عجزت مرة ثالثة، لأنها لم تدرك سلفا عجز النظام «الجهادي» الإيراني عن نجدتها بعدما ورطها نظريا وعمليا في تبني نظرية «الاشتباك المستمر» غير المجدي وغير الملائم.

على الرغم من التطبيل للنصر المزعوم والموهوم، فالمشروع الجهادي ينكفئ ويتراجع على كل الجبهات. ها هو شعب العراق يستعيد هويته القومية. يطرد الإمارة «القاعدية» غير القابلة للحياة بسبب تزمتها. يحاسب الحزب الإسلامي الإخواني على فساده وتعاونه مع الاحتلال. يهدد بإسقاط نظام الجهاديات الشيعية في الانتخابات، إذا ما كانت حقا حرة ونزيهة.

استشهدت غزة. نجت حماس بجلدها. تركتها إسرائيل اعتمادا عليها في إبقاء الانقسام الوطني الفلسطيني على حاله. لكن إجراءات تحييدها تجري بهمة، إحكام الحصار الدولي على بحرها وأنفاقها لمنع تسلحها. فتح المعابر لإحكام سيطرة الاقتصاد الإسرائيلي على اقتصادها برضاها وموافقتها! مرابطة قوة الرقابة الدولية على الحدود والمعابر لمنع «الاشتباك المستمر» بالصواريخ الطائشة.

تبقى مصر هي المنقذ الوحيد من خلال ترتيب «هدنة» بين حماس وإسرائيل، وإيجاد منفذ لشرعية حماس بإعادة دمجها، ليس في المشروع «الجهادي»، وإنما في النظام العربي، في نظام عباس وحكومة وحدة وطنية معه.

تبقى لي ملاحظة صغيرة. لقد كتب على النظام العربي أن يتبرع بسخاء مستمر لإعمار المجتمع المدني الذي يدمره الاشتباك «الجهادي» غير المتكافئ مع عدو همجي. لماذا لا يطالب النظام العربي الأمم المتحدة باستعادة المليارات التي دفعتها إلى إسرائيل من مال العراق، تعويضا عن خسائرها بصواريخ صدام؟ لماذا لا تجبر أمم بان كي مون إسرائيل على دفع تعويضات لغزة التي استشهدت بصواريخ العدوان؟