دم غزة.. ومصاصوه

TT

وكأن الهدف من كل ما جرى من دماء، وما سقط من أشلاء، وما سالت من دموع على غزة وأهاليها، هو القول للعرب والعالم: حماس هي التي يجب أن تتحدثوا إليها، وهي صاحبة السلطة والحكم!

هكذا أبدع الأخ خالد مشعل في خطاب إعلان «النصر الإلهي» لحماس يوم 21 يناير (كانون الثاني) الحالي، عبر خطبة إلهية هي الأخرى، ومتلفزة من دمشق، عاصمة حماس الحركية، حيث قال بالنص: «آن لكم أن تتعاملوا مع حماس» («الشرق الأوسط» 22 يناير (كانون الثاني) 2009).

صوت خالد مشعل وإعلانه هذا عن بداية «عصر حماس» وجد صدى إخوانيا في مصر الجارة، والأم للإخوان، حيث كتب عصام العريان (أحد رموز الإخوان المصريين ومفكريهم) مقالا يبشر هو الآخر فيه بالنصر، ويدرس كيفية تحقيق مكاسب إقليمية لحماس و«معسكر الممانعة» العربي، بما يتجاوز حدث غزة. العريان ذكر وهو يعدد ثمار ما فعلته حماس في غزة - أو بالأحرى ما لم تفعله أمام الجيش الإسرائيلي بنيرانه العمياء والوحشية - ثمار حماس هذه، التي يريد إخوان مصر تحويلها إلى رصيد سياسي في بنك الصراع مع الحكومة المصرية وكل حكومات العالم العربي، غير المتمسكة بالشريعة الإسلامية والجهاد، حسب رؤية الإخوان.

يقول العريان عن حماس إنها:«أصبحت لاعبا إقليميا لا بد من وضعه في الاعتبار».

وينصح جميع إخوانه في العالم بتثمير هذا الانتصار. الأخطر في كلام العريان ما ذكره بوضوح، من وجوب تثمير ما جرى في غزة على شكل قوة ضغط داخلية و: «تحويله إلى تأثير سياسي في الحكومات».( جريدة «الحياة» 26 يناير الجاري).

حماس ومن خلفها الإخوان في العالم الإسلامي، ومن خلفهم إيران وسوريا وبعض الدول «التائهة»، كانوا بحاجة ماسة إلى الجريمة الإسرائيلية في غزة، وإسرائيل لم تقصر، ولم تراع أي درجة من درجات الإحساس بالمسؤولية الإنسانية فيما فعلت، ولم تراع حتى حجم الضرر الذي ألحقته بفرص السلام حاليا، مع أني أرى أن الجو مهيئ أكثر من أي وقت مضى للبدء الجدي في التسويات (غير أن لهذا حديث آخر). حيث إن من حارب أو حرض على ما جرى في غزة، إنما يريد تسخين الماء لصالحه، من أجل أن تعمل محركات المصالح لهذه القوى بفعل بخار الغضب الناتج من مرجل غزة!

الدم سائل مفعم بالحياة، بل هو الحياة، ودماء أهل غزة التي سالت كان هناك من يجمعها بقوارير، ويصبها في جسده المحتاج لهذه الدماء، كي يبقي ويكسب الطاقة، تماما مثل حالة مصاصي الدماء الذين يعيشون بقوة دم الآخر! وما دام هذا الدم الفلسطيني رخيصا عند من يدعي الدفاع عنه، فلا بأس من إسالته، سواء على يد إسرائيل أو على يد من يكسب من إسالة إسرائيل لهذا الدم.

نعم، هذا الدم رخيص على بعض أهله من قادة حماس، ألَمْ يقل موسى أبومرزوق، نائب خالد مشعل، في محاضرة ألقاها بمخيم اليرموك في دمشق إنه وإن: «خسرنا 1500 شهيد (يقصد من مدنيي غزة) إلا أن أخواتنا المجاهدات أنجبن 3500 فلسطيني». («الشرق الأوسط» 26 يناير).

هل يتحدث الأخ أبومرزوق عن بشر من أمهات وشباب وشيوخ لهم أحلام ومشاعر، وربما ليسوا مهمومين بخيالات حماس ومشاريعها، أم يتحدث عن مشروع إنتاج دواجن؟!

شيء عجيب فعلا..

ألم يبشرنا الناطق باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس، كما نقلت وكالة سانا السورية، وحرائق المباني المدمرة ما زالت مشتعلة، وبقية الجثث المطمورة في غزة لم تستخرج بعد، بانتصار حماس، مدللا على ذلك بأن عناصر القسام قتلوا ما لا يقل عن 80 جنديا إسرائيليا خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وقال أبو عبيدة في مؤتمر صحفي عقده في غزة أثناء وقف النار، إن ما خسرته كتائب القسام في الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة هو 48 شهيدا (فقط!)، أي أن معياره للخسارة هو بالنظر إلى تضرر المقاتلين الحمساويين، بصرف النظر عما تقوله الأرقام الأولية أن عدد الضحايا بلغ في الجانب الفلسطيني 1315 فلسطينيا. فضلا عن حوالي تسعين ألف لاجئ داخل القطاع الضيق، وبضعة آلاف من البيوت المهدمة، وحوالي ملياري دولار من الخسائر، ولا زال انتشال الجثث جاريا من تحت الأنقاض.

هذا على مستوى الخسائر المباشرة لأهالي غزة المدنيين، أما الخسائر غير المباشرة، فهي تضرر صورة حركة حماس، باعتبارها حركة غير، لا تتمتع بالحس السياسي المسئول، بل هي حركة مغامرة، تقامر بمصير الناس العاديين، ومرتهنة لأجندة غير خالصة النقاء إقليميا لإيران وغير إيران.

لكن من يقنع الناس في عالمنا العربي بحقائق الواقع أمام إغواء الخطب؟

الحديث عن دور إيران أو سورية واستفادتهما من تحريك ورقة غزة على أعتاب الإدارة الأمريكية الجديدة، وفائدة حماس في الضغط على الحكومات العربية التي تعتبرها معادية لمشروعها (السعودية، الأردن، مصر..)، الحديث عن هذه القوى وحقيقة أهدافها، أصبح معروفا ومكشوفا، لمن لا يؤخذ ببريق الشعارات ولا يرى الأمور بعيون في غاية الطيبة، وهنا أستميح القارئ بملاحظة عابرة عن بعض الكتاب الذين نبتوا في الأيام الأخيرة وخرجوا يعلقون على أحداث غزة، وهم يقدمون أنفسهم محللين وقورين، لا خطباء مظاهرات، بحديث أخلاقي ومحاضرات عن الإنسانية المفقودة لدى من يتحدث عن حماس (حماس وليس غزة !) وموقعها في صراع القوى والمصالح في إقليم الشرق الأوسط، وكأن المطلوب من الكتاب والمعلقين أن يخصصوا مقالاتهم لهتافات المظاهرات والتنديد بإسرائيل، بحجة «الإنسانية» التي لا مكان لها في لغة الصراع والمصالح، للأسف، وحتى لو تركنا الحديث السياسي الجاد، ورفعنا يافطات المظاهرات وهتفنا ضد إسرائيل - وهي تستحق أكثر من الهتاف ضدها فهي تستأهل المحاسبة جنائيا على الأبرياء الذين قتلتهم - يبقى السؤال: هل الإنسانية هي فقط في اتجاه واحد؟ وأين الإنسانية في استغلال إيران ومحورها لدماء أهالي غزة في صالح مشاريعهم السياسية؟ وأين هذه الإنسانية في حديث مشعل وأبومرزوق وأبو عبيدة، بالغ الاستهانة بدماء المدنيين من الأطفال والنساء في غزة ما دامت حماس «بخير» كما هي بشارة مشعل؟.

إذا كانت حماس على لسان مشعل تخرج بعد هذه المأساة لتطالب بوجوب الاعتراف بها أخيرا، فهل هذا من الإنسانية في شيء؟

في تقديري أن المستثمر الجديد في بورصة الدم الفلسطيني هم الإخوان المسلمون في مصر وغيرها، فهم، وبكل وضوح وإلحاح، بدأوا بمحاولة الركوب على موجة الدم الغزاوي، من أجل أن تحملهم هذه الموجة الدموية إلى شواطئ أحلامهم السياسية في إقامة دولة الإخوان، ولو حصل هذا الوصول فسنرى لغة الثورة والجهاد والممانعة الراهنة، تتحول إلى لغة عملية وبراغماتية مع الغرب، لأن الغرض حصل، وهو الوصول إلى السلطة.

لعبها الإخوان المسلمون هذه المرة على المكشوف، وصرحوا بقسم من أهدافهم، هز وضرب الدول القائمة لبناء دولة الإخوان على أنقاضها، والحجة دوما جاهزة: فلسطين الجريحة، ولذلك فليس من صالح الإخوان الآن وجود أي مسعى في اتجاه السلام، ربما هادنوا وتساهلوا، كما ينصح عصام العريان قادة حماس بقبول التهدئة مؤقتا والحديث «مرحليا» عن حدود 67، لكن في الجوهر تعتبر قضية فلسطين بشكلها العاطفي والتعجيزي في إمكانية حلها سياسيا، عبر حديث الإخوان وحماس عن تحرير فلسطين «من النهر للبحر» وأن فلسطين هي «وقف إسلامي»، إبقاء صورة الحل ومنفذ الخروج لإنهاء العقدة الفلسطينية لدى العرب والمسلمين، بهذا الشكل التعجيزي، يعتبر منجم ذهب سياسي وآيديولوجي للخطاب الإخواني.

إذا بقي هذا المنجم الآيديولوجي الفلسطيني كما هو، فسيظل الحال الخرب على ما هو عليه، وستخرج لنا حماس أخرى وغزة أخرى ومظاهرات أخرى ومزايدات أخرى، وانقلابات أخرى، وأكاذيب عقائدية أخرى، ومصاصو دماء آخرون، حتى يجف الدم الفلسطيني أو يرتوي المصاص الإيراني والإخواني وغيرهما، أو ينتفض العقل لدى العرب والمسلمين ليحقن الدماء ويجري الماء، وساعتها ستكون إسرائيل أول المتضررين من يقظة العقل العربي، لأن الرأي قبل شجاعة الشجعان كما قال حكيمنا الأول .

[email protected]