الحجر على العرب؟!

TT

كان الوقت صيف عام 2004 عندما كنت باحثا زائرا في معهد بروكينجز في واشنطن، لإعداد ورقة عن العلاقات المصرية الأمريكية، عندما تجاذبت أطراف الحديث مع مارتن أنديك مساعد وزير الخارجية الأمريكي والسفير لدى إسرائيل في عهد كلينتون حول الاستراتيجية الأمريكية إزاء العالم العربي. كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 لا تزال حارة، والغزو الأمريكي للعراق كان لا يزال حديث العهد، والعواطف في العالم العربي وفي الولايات المتحدة كانت مشبوبة باللعنات والرفض. في هذا النقاش الثنائي لفت نظري أن مارتن أنديك قال لي «إن فشل كلينتون في تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل قد جعل الاستراتيجية التي تجعل من السلام العربي – الإسرائيلي مفتاحا للشرق الأوسط استراتيجية فاشلة أيضا، حيث لا يوجد كثرة من الأمريكيين يتبنونها، وعلى العكس.. لم يبق أمام الولايات المتحدة والغرب كله سوى واحدة من استراتيجيتين: العنف والحرب، والضغط السياسي والدبلوماسي، من أجل تغيير طبيعة العالم العربي المغرقة في التقليدية والتطرف، أو الحجر (الكارنتين) الذي يمنع المغالاة والإرهاب من الولوج إلى الشواطئ الأوروبية والسواحل الأمريكية».

ما قلته لمارتن أنديك في ذلك الوقت ليس مهما كثيرا، ولكن المهم هو التعرف على منابع هذه الاستراتيجيات، والكيفية التي تم بها التطبيق في الواقع العملي. وربما كانت الأصول معروفة للجميع، وهى أنه في عصر العولمة والتطور التكنولوجي العالمي إلى آفاق غير مسبوقة - كنا لا زلنا في عام 2004 - والنهضة الاقتصادية والديمقراطية التي امتدت من أوروبا الشرقية إلى آسيا وإلى أمريكا الجنوبية والوسطى، حتى وصل بعضها إلى سواحل إفريقية، كلها دخلت في تجارب الانتقال إلى اقتصاد السوق والديمقراطية. وَحْده بقي العالم العربي واقعا في حالة استثنائية، لا يهمه المستقبل بقدر ما يشغله الماضي، ولا يعرف كثيرا عن التقدم بقدر ما يستطيع تقدير التقاليد والخصوصية، ولا يوجد في برامجه الكثير عن الحياة بقدر ما يستعد للموت. كانت تلك هي الأيام التي شهدت مقارنات عدة بين الدول العربية والعالم، من خلال تقارير التنمية البشرية والتنافسية والفساد، وكلها لم تكن إيجابية بالنسبة للدول العربية. وباختصار.. بدا العالم العربي للعالم عالما فاسدا وعاجزا عن الولوج إلى دنيا وَلَجَها الكثيرون من قبل، ومغرقا في قضايا ليس لها حل، وزاعقا بأكثر مما يجب، وعاجزا بأكثر مما يستطيع، وشاكيا طوال الوقت بلا استعداد للتضحية أو التغيير في الوسائل والأساليب.

حقيقية كل ذلك من عدمه ليس قضيتنا، وعلى أي الأحوال، فإن العالم العربي بحكامه ونخبته لم يبذلوا جهدا كبيرا في العالم، أو في داخل بلادهم، للتخلص من صورة غير كريمة، وما يهمنا هو أن هذه الصورة وقفت وراءها استراتيجية للهجوم، أخذت أشكالا عنيفة شتى في العراق والصومال والسودان، وفي هجمات سياسية ضاغطة من أجل الديمقراطية والمشاركة السياسية. وربما يلعن الكثيرون في هذه المرحلة إدارة جورج بوش التي رحلت، ولكن التاريخ سوف يسجل أن ما فعله بوش كان جزءا من استراتيجية غربية ضاغطة من أجل التغيير، تبناها الاتحاد الأوروبي، ودول مجموعة الثماني، وبأشكال مختلفة تجمع الدول الصناعية والمتقدمة. وكانت المشاركة بالجيوش أحيانا، كما حدث في العراق وأفغانستان وتحركات الجيوش والأساطيل، وبالدبلوماسية أحيانا أخرى، وبالسياسة أحيانا ثالثة، وبأعمال المخابرات أحيانا رابعة، وبالضغط الأدبي والمعنوي في كل الأحوال.

ولكن استراتيجية «القوة» لم تكن وحدها في الساحة، وإنما أخذ «الحجر» مكانه تدريجيا، بادئا بقيود لا تحد على تأشيرات الدخول إلى الساحات الأوروبية والأمريكية، العلمية، وحتى الاقتصادية. وأصبح دخول «العربي» إلى عاصمة غربية كما لو كان اقترابا من سدة المستحيل، وعندما تدخلت المؤسسات الأمريكية لمنع «شركة موانئ دبي» من إدارة مرافئ أمريكية؛ فازت بإدارتها في مناقصة عادلة، كانت مقتضيات السياسة واستراتيجية الحجر تقضي بأن يبقى العرب داخل بلادهم، حتى ولو كانوا قادرين على التنافس. وللأسف، كانت «شركة موانئ دبي» استثناء من القاعدة، حيث ظهرت المجزرة في العراق بين السنة والشيعة دلالة على عالم مفرط في التعصب المذهبي. والكارثة الإنسانية في دارفور دلالة أخرى على عنصرية مقيتة. والفشل الكامل في الدولة الصومالية ـ العضو في جامعة الدول العربية ـ يعد انكشافا لانعدام القدرة العربية حتى على حل معضلات الدولة في النظام العربي. ومع ظهور الإخوان المسلمين في مصر، و«حزب الله» في لبنان، و«حماس» في فلسطين، بدا أن العالم العربي قد استسلم ـ بالإرادة، أو بالتوافق ـ إلى قوى عرفها العالم الذي سبقنا فقط خلال العصور الوسطى.

لم يبق إذن من وجهة النظر الغربية سوى الحجر، وهو نوع من الحصار الذي قد يفرض على المصابين بأمراض مزمنة ومعدية. وعندما جرت أحداث غزة الأخيرة، أيا كانت أسبابها ومبرراتها، يلاحَظ أن النتيجة الاستراتيجية الكبرى التي نتجت عنها كانت الاتفاق الإسرائيلي الأمريكي. ويبدو الاتفاق على السطح كما لو كان مصنوعا لمنع إمداد حماس في غزة بالأسلحة، ولكن القراءة المتأنية له تشهد بأن جوهره هو فرض نوع من الحجر العسكري على العالم العربي كله، حيث يختص بالمراقبة اللصيقة، بالمخابرات والأساطيل والأجواء والفضاء، لكل البحار المحيطة بالعالم العربي: البحر الأبيض المتوسط، وخليج عدن، والبحر الأحمر، وشرق أفريقيا، من خلال تحسين الترتيبات القائمة وإطلاق مبادرات جديدة لزيادة الفاعلية لهذه الترتيبات فيما يتصل بمنع تهريب الأسلحة إلى غزة. هذه الترتيبات القائمة، والمشار إليها، هي تلك المرتبطة بمبادرة «السعي النشط»، التي عرضها حلف الأطلنطي على دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، ووافقت عليها إسرائيل لمراقبة الحركة البحرية، من أجل مواجهة الإرهاب على إطلاقه، وليس ذلك المرتبط بغزة وحدها. وبشكل من الأشكال، فإن المبادرة الجديدة تربط ما بين غزة، والإرهاب، والقرصنة، وكل ما يبدو وكأنه أنشطة معادية للغرب خارجة من المنطقة العربية.

وهنا ترد – بالإضافة إلى ما سبق - ثلاث ملاحظات على هذه الاتفاقية الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل: الأولى أن هذه الاتفاقية لا يمكن إبرامها ـ كما ذكر ـ فقط بين وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، ووزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبى ليفنى؛ حيث يستحيل ذلك دون موافقة الإدارة الأمريكية المنتخبة، ومن ثم فإنها كانت بالفعل أول قرارات باراك أوباما في المنطقة. فلا التقاليد التاريخية، ولا الأصول السياسية، تسمح لإدارة راحلة أن تتخذ هذه الخطوة، ما لم توافق الإدارة القادمة عليها، وتحبذها، وتحث عليها. والثانية أن الترتيبات الجديدة، مضافة إلى تلك القديمة، قد تم وضعها تحت إمرة الإدارات الأمريكية المعنية، مثل «القيادة المركزية الأمريكية، والقيادة الأوروبية الأمريكية، والقيادة الأفريقية الأمريكية، وقيادة القوات الخاصة الأمريكية». ومعنى ذلك أن دولة قطر، مهما تسلحت بعشرات القنوات التلفزيونية القومية النشطة، سوف تكون المنطلق لعملية إحاطة العالم العربي كله إحاطة السوار بالمعصم. والثالثة أن عنوان الاتفاقية، ومحتواها يبدو خاصا بغزة وحدها، ولكن النص يقول بوضوح إنه يخص «حماس» و«المنظمات الإرهابية الأخرى»، وأيضا تلك الدول- مثل إيران- المصممة على تقديم التسلح لهذه المنظمات.

لقد بدأت حرب غزة وانتهت، على الأقل كما عرفنا حتى الآن، وجاءت إدارة جورج بوش وذهبت، وحلت محلها إدارة باراك أوباما، ولكن الاستراتيجيات الكبرى تبقى على حالها بعد تطويرها، لكي تلائم مقتضى الحال. وربما كان باراك أوباما معارضا منذ البداية للحرب في العراق، ولديه تحفظات على طريقة إدارة الحرب في أفغانستان، ولكن استراتيجية الحجر والاعتصار والحرمان العلمي والاقتصادي ربما تكون أكثر فعالية بالنسبة لعالم عربي يريد، أو يريد بعضه، أن يظل خارجا على العصر، وباقيا خلف الزمان.

المرهق في ذلك كله أن أمريكا والدول الغربية تعرف استراتيجياتها، وتبدلها حسب الأحوال والفعالية؛ أما الدول العربية، فلا يوجد لديها ما هو أكثر من القمم العربية، وتكتيكات دول وجماعات وحركات لا يزيد زمنها عن يوم أو ساعة، وقبل ذلك وبعده الانتظار حتى تتحرك الدول الغربية، أو تتحرك التنظيمات الراديكالية، أو يقضى الله أمرا كان مفعولا!.