الداخل التركي غير خارجه

TT

تقول الطرفة التي يرددها الأتراك هذه الأيام، إن معتقلا بتهمة تهديد النظام اتصل بابنه المتذمر العاجز عن حرث حقل البطاطا بمفرده، واخبره بأن يكون حذرا في عدم البوح عن مكان مخبأ السلاح في الحقل. في اليوم التالي، يتصل الابن بوالده ويقول إنه انتهى من عملية الزراعة بفضل رجال الأمن السريين.

رجال الشرطة التركية منهمكون هذه الأيام، وفي أكثر من مدينة في النبش تحت التراب عن مخازن السلاح والذخيرة التي خبأها البعض، بهدف القيام بعمليات قتل واغتيال وتخريب تطال النظام وتمهد لضربة عسكرية في البلاد. وهم على عكس الطرفة، عثروا في أكثر من مكان على كميات كبيرة من الأسلحة التي قادتهم إليها رسوم وبيانات، عثروا عليها خلال مداهمة منازل لشخصيات تولت أهم المناصب، وعملت في أكثر المهام سرية في البلاد.

عشرات من رجال السياسة والفكر والأكاديميين والإعلاميين وضباط في الخدمة أو في التقاعد، قرر المدعي العام التركي زكريا أوز، الذي خصصت له وزارة العدل مؤخرا سيارة مصفحة في أعقاب التهديدات المتلاحقة التي يتلقاها، مطاردتهم وإحالتهم إلى القضاء بتهمة تشكيل عصابة مسلحة، هدفها قلب النظام وإسقاطه، ومعلنا أن المهمة لم تتوقف بعد، وأنه وراء الرقم واحد والرأس المدبر الذي بات موضوع الوصول إليه مسألة وقت فقط.

تصفية حسابات قديمة – جديدة بين تيارين ونهجين وصحافتين، كثيرا ما تضاربت مصالحهما داخل تركيا وخارجها، لكنها مختلفة على ما يبدو هذه المرة، فالمعاول والجرافات هي التي ستحسمها وتحدد مسارها. تركيا تعرفت قبل سنوات إلى حادثة «سوسورلك» الغريبة العجيبة والتي هي عبارة عن اصطدام سيارة جمعت بين أحد أهم المطلوبين للعدالة بتهم بالغة الخطورة داخل تركيا وخارجها ونائب في البرلمان هو رئيس إحدى أكبر العشائر الكردية ومدير شرطة في اسطنبول، أغلق ملفها بسبب تدخلات وتهديدات باسم الحفاظ على مصلحة البلاد العليا كما أراد البعض وقتها، وها هو هذا البعض يحاول مجددا طمر ملف «ارغنكون» تحت التراب، ليعاجله أوز بحملة مضادة.. المزيد من الحفر تحت التراب للكشف عن عدد أكبر من مخازن الأسلحة.

مدعي عام اسطنبول يصر على أنه يتحرك باسم القانون ولحمايته، وأنه لن يتردد في طلب اعتقال وسجن كل من يصل إلى أدلة ضده في هذه القضية مهما علا شأنه مدنيا أو عسكريا، لا فرق وهو فعلا ينفذ ما يقول. حملته العاشرة استهدفت مجموعة من كبار الضباط والأكاديميين والإعلاميين ورجال الأعمال، اتهمها بانتظار إشارة يعطيها أحدهم باسم قضية أو دفاعا عن شعار أو حماية لأفكار أو تطلعات مهددة.

تيار يقول إن المدعي العام يتصرف على هواه خلال حملات الاعتقال والمداهمة، وتيار آخر يزعم أن الشرطة التركية هي التي تقود العملية وتسيرها كما تشاء باسم بعض الجماعات والقوى السياسية، وجناح ثالث يصر على أن ملف القضية سيرفض من قبل المحكمة العليا التركية لأسباب كثيرة تتعلق بالشكل والمضمون، وفئة رابعة تتمسك بأن التهم التي وجهها الادعاء إلى المعتقلين حول هدف تغيير شكل النظام وتنفيذ انقلاب في البلاد تتعارض مع مسار القضية والإفادات التي يدلي بها الأشخاص الموقوفون، وأن الملف سينقل بشكل أو بآخر إلى محكمة العدل الأوروبية التي ستقرر تعويضات للكثيرين، بسبب مغدوريتهم وأن هذه المبالغ سيدفعها الشعب التركي من جيبه نتيجة أزمة مفتعلة أرادها البعض.

مواجهة محتدمة بشكل أو بآخر بين المدعي العام المصر على أن أكثر من عملية اغتيال وتفجير استهدفت شخصيات ومؤسسات تركية تتحمل «ارغنكون» مسؤوليتها تخطيطا وتنفيذا وبين فريق آخر يقول إن الأدلة والبراهين التي أعلن عنها حتى الآن وقادت إلى عشرات الاعتقالات في صفوف النخب التركية.

الداخل التركي هو غير الخارج طبعا، العدالة والتنمية الذي يقود منذ سنوات حملة إقليمية شاملة تعيد لتركيا ما تستحقه، لكنها افتقدته مطولا من أهمية سياسية وتاريخية واقتصادية والذي نجح في تجاوز الكثير من القطوعات والعراقيل عززها بدخوله على الخط وسيطا لإنهاء أكثر من خصومة وخلاف في المنطقة يبدو أنه يجد صعوبة في الداخل، حيث ما زال البعض يرى فيه مصدر خطر على النظام وأسسه ويصر على إسقاطه وإبعاده عن الحكم. وما تكتل «ارغنكون» هذا سوى المؤشر الأخير على تمسك هؤلاء بفكرة «انتشال تركيا من المصيدة»، متجاهلين ملايين الأصوات والخيار الديمقراطي الشعبي ووقوف المؤسسة العسكرية بعيدا عن المناوشات السياسية الداخلية خصوصا في الآونة الأخيرة.

حكومة رجب طيب أردوغان تراهن حتى الرمق الأخير على القضاء المستقل ووقوف الرأي العام التركي إلى جانبها ودعم الصحافة لها في عملية تقول إنه كان لا بد منها لتصفية ما تبقى من جيوب تحاول تعطيل العملية السياسية بوسائل وأساليب استفزازية دعائية تحريضية.

* كاتب وأكاديمي تركي