ثقافة «السلام» هي ثقافة «المقاومة»

TT

يجب ألا تختل في يدنا عجلة قيادة حياتنا. يجب ألا ترغمنا الأحداث على اليأس والإحباط وهزيمة الروح والإصابة بعقدة «اضطهاد الذات». «النقد الذاتي» حنون وغير متهكم، و«اضطهاد الذات» عنف ضد الذات القومية والعرقية والثقافية، يكسر في ضرباته كل أعمدة النهوض، ويمزق أطواق النجاة.

ليست مهمتنا «الآن» أو «غدا» شرح «الإسلام» لمن اختاروا، بعد كل صور المذابح، أن يكرهونا ويفرحوا بما يصيبنا من كوارث. لا يهمني أن يعرف الغوغائي في الشارع الغربي، الصائح بوجه كل عربي «أيها المسلم القذر»، ما هو «الإسلام»؟، لأنه يستطيع أن يعرف لو شاء، ولو أراد، لكنه يتعمد البحث عن «الجهل!».

الذي يعنينا أن يعرف العربي القوة الكامنة في «إيمانه»، أن يعرف «المسلم» دينه حق المعرفة، من دون استخذاء أو اعتذار أو تثبيط، أنْ نعرف جميعا أننا بدعوة «السلام» لا نقصد «التفريط»، وأننا بحب «السلام» نهبُّ للمقاومة.

ولأنني من الجيل الذي يحمل وعيا، يبلغ من الأعوام 62 سنة، بخسة الإرهاب الصهيوني منذ عام 1947 حتى الآن، فأنا لم أندهش من صور الوحشية المنقولة للسمع والبصر عبر أجهزة الإعلام من كل صوب ومكان.

لقد ترعرعت ـ مع جيلي ـ على تفاصيل المجازر والذبح وبقر البطون وعصابات الهاجاناة، وغيرها، التي كان من مجرميها الإرهابيون الرواد: بن جوريون، وبيجين، وموشى دايان، وجولدا مائير، ورابين.. إلخ، الذين تركوا وراءهم تعاليم تربى عليها شارون ونتنياهو وبيريز وإيهود باراك وخفافيش المستوطنات - (المستخربات، لا المستعمرات) - من مصاصي الدماء، العطشى دائما إلى تجرع دمائنا في انتشاء لا يكتفي بأي ارتواء.

حين تحدث البعض منذ سنوات عما أسموه «ثقافة السلام»، و«كسر الحاجز النفسي» بيننا وبين عدونا الأبدي، لم يوضحوا للناس في بلادنا، أن تلك الأبدية في العداوة لم نكن نحن المسؤولين عن اختيارها، لأن «العداء» اختيار يضعه المغتصب للحقوق، ويأبى علينا أن ننساه، لأنه باق لا يتزحزح عن كونه «المحتل»، السارق للأرض والوطن وهوية «فلسطين» شعبا ولغة ودينا وحضارة.

و«السلام» الذي هو «تحيتنا» له في تعريفنا دلالة لا تنفصل عن «الحق»، لا تنفصل عن «العدل»، لا تنفصل عن «الأمن» و«الطمأنينة» لأصحاب «البيت» و«الحقل» و«المسجد» و«الكنيسة» و«الأرض المباركة». وكل ثقافة تؤدي إلى تأكيد هذه الدلالة، التي نفهم بها كلمة «السلام»، هي فقط «ثقافة السلام» المعتمدة لدينا. وحين نرى العدو الصهيوني، العدو الأمريكي، العدو «الأوروأمريصهيوني»، «يُشقلب» لنا معاني «السلام» لتصبح - وفقا لأهوائه الشريرة - خضوعًا لشروط اللصوص تحت تهديد الإبادة بالطائرات والمجنزرات والرصاص والقلوب التي هي أشد قسوة من الحجارة، فلا بد لنا أن نقف وقفة «الشاهد الشهيد» لنقذف بالحق على الباطل ليزهقه بحول الله وقوته، في مواجهة كل هؤلاء الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به «الحق»، وليس أمامنا سوى «ثقافة المقاومة»؛ لتتحقق لنا وللعالم دلالة «السلام» الأصيلة والأصلية.

لم تكن بيننا وبين العدو الصهيوني المحتل الاستيطاني - المتمثلة فيه أبشع وجوه الاحتلال قاطبة - أي «حرب». لقد أعلنوا «هم» علينا الحرب العدوانية، وأسموها كذبا وزورا وبهتانا «حرب التحرير»، وكان علينا أن نواجه العدوان بالصد وإماطة الأذى عن الطريق - فيما يجب أن نعرف كونه - بمعارك «المقاومة».

منذ عام 1948 ونحن نقاوم، بل منذ عام 1928 ونحن نقاوم، بل منذ عام 1917 ونحن نقاوم، بل منذ قبل ذلك وإرهاصات اللصوص تزحف بحركاتها ونحن نقاوم، ومعنا «ثقافة المقاومة» منذ نهاية القرن الـ 19 وعلى طول القرن العشرين، التي تنبهت بجنودها إلى مخاطر ثقافة المحتل الإنجليزي والفرنسي والغربي بوجه عام، وقالت وقالوا: «احذروا الطعام المسموم».

الحقيقة أننا لا نقترح «بداية» لثقافة المقاومة، لأنها عميقة الغرس في تاريخنا وحضارتنا ونهضتنا العربية والإيمانية والإسلامية، لكننا نؤكد على «المواصلة» لثقافة المقاومة، و«التنقيب» عن جنودها وروادها وشهدائها المطمورين تحت لجاجة و(غتاتة) عصابات النشل الحضاري و(تجار الشنطة) الثقافية، الملوثة لبيئة العقل والقلب والوجدان، بماركات «التنوير» منتهية الصلاحية منذ غروب الشمس عن إمبراطوريات الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإيطالي.