هل خسرت إسرائيل الحرب على غزة؟

TT

كل الشاشات المتفجرة بالدم وأعني بالدم: دم المدنيين من الأطفال والنساء، كل الشاشات تشير إلى هزيمة أخلاقية من مستوى كارثي.

خلال الليالي الماضية كنت أتنقل من شاشة إلى أخرى بحثاً عن صورة أخف وطأة من بين الصور الرهيبة التي انهمرت علينا طيلة ثلاثة أسابيع من قطاع غزة. وكلما خرجت من شاشة إلى شاشة وجدت الصورة نفسها واللون ذاته والصرخة عينها. مجرد تنويعات للحن الجنائزي ذاته، وتشكيلات للوحة نفسها على طول وعرض ذلك المسرح الرهيب الذي وقفت فيه آلة الحرب الإسرائيلية بطلة ومنتجة ومخرجة على طول حلقات ذلك الفيلم الخالي من القيم والأخلاق.

في كل الشاشات صورة الطفلة التي كانت تحمل في حضنها رضيعاً مضرجاً بالدم (ربما كان أخاها) وهي تهدهده وتحاول في حنان الأم أن تخفف من آلامه. كل الشاشات نقلت صورة الطفلة التي أجبرتها آلة الحرب الإسرائيلية على حمل مسؤوليات أمها وأبيها بعد أن خطفتهما هذه الآلة في حين غفلة من العدسات التي لم تحضر إلا في اللحظات الأخيرة لتصوير المشهد. هذه الصورة تشكل ملمحاً من ملامح الهزيمة الأخلاقية.

المظاهرات التي عمت العالم كله وتوجهت إلى مقرات السفارات الإسرائيلية في العواصم العالمية وأحرقت فيها أعلام إسرائيل من قبل متظاهرين غير عرب وغير مسلمين ناهيك عن جماهير العرب والمسلمين، كل ذلك يشير إلى وجه من وجوه الهزيمة الأخلاقية المذكورة.

خروج اليهود في المظاهرات وإحراق جواز السفر الإسرائيلي على مرأى من عدسات التلفزة يشير رمزياً إلى شكل من أشكال الهزيمة.

قد لا يعني رفع علم فلسطين في معظم العواصم العالمية شيئاً في حساب الآلة العسكرية الإسرائيلية لكن رفعه عالياً في سماء النقب والجليل من قبل المواطنين العرب واليهود المتضامنين مع القضية الفلسطينية يجعل الصورة تنفتح على دلالات القلق والرعب لإسرائيل.

أليست الصورة هنا موغلة في رمزيتها: حاخام يهودي يحرق جواز سفره الإسرائيلي أمام العدسات في لندن، وعلم فلسطيني يُرفع في سماء النقب والجليل. هوية الدولة الإسرائيلية-إذن- مهددة في الداخل وسمعتها تلوكها عدسات الكاميرا في الخارج.

كل ما سبق يشير إلى أن مفردة «إسرائيل» أصبحت تنطوي على دلالات الدم والقتل وانتهاك الأعراف الدولية، واستخدام المال السياسي والإعلام المداهن وجماعات الضغط لشراء التأييد في الولايات المتحدة وحول العالم. وفي الوقت نفسه تشق مفردة «فلسطين» طريقها إلى قمة الاهتمام الدولي والضمير الإنساني. وبعبارة أخرى فإنه في الوقت الذي تتعاظم فيه «العضلات» الإسرائيلية فإن «الروح» الفلسطينية تكتسب قوة وألقاً يوماً بعد يوم.

الكلام السابق بالطبع هو من قبيل الهراء في رأي راسم السياسة الإسرائيلية التي شربت قبل أيام نخب الانتصار العظيم على غزة، تلك السياسة التي قال رئيسها وحكيمها العجوز أثناء الحرب: إن إسرائيل قد حققت في ستة عشر يوماً في مجال مكافحة الإرهاب ما لم يحققه العالم كله في هذا المجال في ستة عشر عاماً. وهذه مبالغة تليق ببيريز غير أن الحقيقة هي أن إسرائيل قد حققت لحماس في ستة عشر يوماً ما لم تستطع حماس نفسها أن تحققه في ستة عشر عاماً.

ولنفترض أن إسرائيل خرجت من هذه الحرب وقد نُفذت جميع شروطها المتمثلة في وقف تهريب السلاح ووقف إطلاق الصواريخ وهدنة طويلة الأمد، فإن المستقبل القريب سيكشف عن صعوبة تطبيق هذه الشروط إذا استمر الاحتلال واستمرت معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، الأمر الذي سيفضي إلى أن الحرب ستتكرر كل سنتين، أو كل سنة، أو تتكرر في غضون شهور معدودة. وذلك بالطبع ما لا ترغب فيه إسرائيل نظراً لطبيعة تركيبتها الاجتماعية، ولأن الكثير من مواطنيها يحملون جوازات سفر غير جوازات سفرهم الإسرائيلية بما يمكنهم من البحث عن مجتمع أكثر أمناً بعيداً عن برميل البارود الذي لا يكف عن التدحرج في منطقة الشرق الأوسط.

صحيح أن إسرائيل خرجت من الحرب بتوقيع وثيقة أمنية مع الولايات المتحدة، وأن الأخيرة لا تزال تجدد التزامها بأمن إسرائيل بمناسبة وبغير مناسبة، إلا أن ذلك لا يعني أن الالتزام الأميركي بأمن إسرائيل سيستمر إلى الأبد في ظل ما بدا يلوح على أنه تشكل لتعارض في مصالح الجانبين في المنطقة، وفي ظل استنزاف الموارد المالية والأخلاقية الأميركية في سبيل تحقيق الالتزام بأمن إسرائيل، فعلى الرغم من تعاظم الدعم الأميركي لإسرائيل فإنه يبدو أن الكاهل الأميركي قد بدأ يحس بوطأة العبء الإسرائيلي عليه. لا تستطيع إسرائيل-إذن- ضمان الدعم الأميركي والغربي طول الوقت في ظل حركة سريعة لإيقاع العلاقات الدولية وتغير التحالفات.

أما على جانب الخسائر المادية والبشرية الفلسطينية التي تعد إنجازاً في حسابات الآلة العسكرية الإسرائيلية فإن ما دمر من بنى في قطاع غزة سيعاد بناؤه بجهود عربية وإسلامية ودولية وهذا من المسلمات. المستشفيات والجامعات ودور العبادة والمدارس كلها سيعاد بناؤها. وأما قدرات حماس فإن المشكلة الإسرائيلية ليست في صواريخ حماس، بقدر ما هي في طبيعة المواطنين الإسرائيليين الذين يصيبهم مجرد سماع دوي الانفجار بالهلع الذي ينتهي بهم إلى المستشفيات، الأمر الذي يُمَكـِّن حماس بالقليل منها من إقلاق إسرائيل على خاصرتها الجنوبية. وتبقى دماء الأبرياء من المدنيين التي أنجزت إسرائيل سفكها بجدارة، هذه الدماء ستظل تذكر أبناء القطاع بالقتلة من الإسرائيليين وتذكر العالم بأن أبناء وأحفاد الناجين من المحارق النازية قد صنعوا للفلسطينيين محرقة على طريقتهم الخاصة في قطاع غزة. وسيظل هابيل الفلسطيني الذي دفن في غزة، سيظل حياً في ضمائر الناس وسينتهي قابيل إلى الموت غرقاً في بحر الدماء التي فجرها ذات يوم من ديسمبر عام 2008.

*كاتب يمني مقيم في بريطانيا