كارثة غزة والخروج من المأزق

TT

خلال الهجوم الإسرائيلي على غزّة، أصرت حماس على تحقق الانتصار، ثم فسّرت ذلك بأنه ما سقط من مقاتليها غير بضعةٍ وأربعين شهيدا، وأنّ فكرة «التسوية الخبيثة والاستسلامية» قد انتهت إلى الأبد! والذي أراه - و بغضّ النظر عمّا تراه حماس أو لا تراه - أنه تحقّق شيء كبير وهامُّ هو الاقتناع العربي العامُّ أنه ما عاد من الممكن أو من المقبول الصبر على ما يجري منذ العام 1974، وأن القضية الفلسطينية إن لم تجد حلا ملائما، فلن يبقى بديارنا حجر على حجر، وبأيدي فئات منا، قبل أن يكون بأيدي الإسرائيليين! أما الأمر الآخر فإن العكس هو الذي يوشك أن يحصل، فقد سارع العالم كله لتجديد حظوظ التسوية. وينصب الاهتمام الآن على تنظيم عمليات الانطلاق، وبتنسيق بين الدول الكبرى، التي كانت قد حزرت إمكان حدوث شيء في حقبة «الفراغ المؤقت» فأصدرت القرار الدولي رقم 1850 الذي لم يقلل على أي حال من شهية إسرائيل للإرعاب وإثبات التفوق بقتل المدنيين. وما قلّل من جهة ثانية، بل زاد من شهية حماس لتحقيق النصر، وإسقاط التسوية، بدون خسارة في المقاتلين!

إن هذا الاستنتاج المباشر هو الذي دفع الملك عبد الله بن عبد العزيز للمبادرة إلى مواجهة الانقسام قبل أن يستشري. فالانقسام العربي في هذه الظروف المصيرية يعني المزيد من التردّي في مهاوي الهلاك؛ بحيث نُكْملُ بأيدينا ما بدأته أو واظبت عليـه إسرائيل منذ العام 1948. ويـريد المُصِرُّون من الإعلامييـن والسياسييـن – وبحجة المبالغة في نُصرة شعب فلسطين - على أنّ المبادرة السعودية ما نجحت أو لن تنجح: إقناع النفس والعالَم بأنّ انتصاراتٍ أُخرى كانتصار غزّة هي على مرمى حجرٍ أو حجرين؛ بينما يريد كبيرنا القول إنّ الانقسامَ خلال الهزيمة وبعدها، هو استدرارٌ لنتائجها الكارثية، وسدٌّ للأُفُق أمام إمكانيات التفكير المشترك في الخروج من المأزق.

والعالَمُ ما رأى الفظائع في غزّة وحسْب، بل رأى أيضاً أنّ ما قامت به السعودية ومصر، وما تقومانِ به، قبل قمة الكويت، وفي قمة الكويت، هو جهدٌ جبّارٌ لكي لا يتسرَّب الخرابُ، ليس إلى مسائل المنطقة وحسْب، بل وإلى العالَم. «فالغزوةُ» التي قامت بها القاعدةُ على الولايات المتحدة، ثم على سائر أنحاء أوروبا والدول العربية والإسلامية، بدأت في العام 2001، أي بعد فشل التسوية، واندفاع العنف الإسرائيلي باتجاه الضفة الغربية وقطاع غزّة، فغزو أفغانستان، وغزو العراق.

وقد أظهر العاهلُ السعودي للعرب والعالَم ما يمكن القيامُ به لكفّ العنف، واستكشاف آفاقٍ أُخرى للسلام بعد أن سارت السياسات الأميركية والإسرائيلية خلال أكثر من خمس سنواتٍ بالاتجاه المعروف، رجاءَ نحْر القضية الفلسطينية، ونحْر آمال السلام والعدالة.

وها هي مصر، التي أرادوا قصْر دورها على فتح معبر رفح، تتصدى لعملين جليلين: تثبيت التهدئة بغزّة، وإعادة إعمارها، وتوحيد الصفّ الفلسطيني، لكي لا تضيع القضيةُ كلُّها أو تتسرَّب من أيدي أصحابها، كما حدث خلال السنوات الماضية. أو كما قالت مصر لغزة وهي تربط إعمار القطاع بالمصالحة: لن تُبنى غزة لكي تُهدم ثانيةً!

ولذا، فإنّ السيناتور جون ميتشل، مبعوث الرئيس الأميركي، إنما بدأ زيارتَه للمنطقة بزيارة مصر، حيث تجري هناك - وبالتنسيق مع السعودية - عمليةُ استعادة القضية الفلسطينية، ومعها استعادة الرُشد إلى الصفّ العربي، والأمان إلى المستقبل العربي.

والذي نَقَولُهُ هنا لا يعني أنّ النجاح قد تحقّق، وأنّ العرب أمسكوا بالكفاءة والاقتدار بزمام الأمور؛ إذ دون ذلك مصاعب جمة، ومساعٍ قد تستغرقُ أعواماً. لكنّ المسار الجديد تحدَّد مرةً واحدة. فنحن لم نَرَ يوماً كأيام الناس منذ افترق الصفّ العربيُّ أواخر السبعينات، حين اتخذت مصر مساراً انكفائياً، بينما صار همُّ السعودية الحيلولة دون اتجاه سورية الأسد، وعراق صدَّام إلى الاصطدام. وفي وقتٍ لاحق الحدَّ من مغامرات الرئيس العراقي المعروفة تجاه إيران وتجاه الكويت وتجاه السعودية ذاتها.

ومنذ العام 2002، ومن بيروت، حاول عبد الله بن عبد العزيز – وليُّ العهد بالسعودية آنذاك - استيعابَ الانقسام العربي ( باستيعاب العراق)، كما حاول تنبيه العالَم إلى خطورة ما تتجه إليه إسرائيل برعاية واستحسان إدارة بوش، بإطلاق مبادرته للسلام. فقد استشعر يومَها بخلاف الكثيرين الخَطَر على العراق، كما الخطر على القضية الفلسطينية. وما التفت الدوليون لذلك، حتى بعد إعادة احتلال إسرائيل للضفة والقطاع، وقيام الولايات المتحدة بغزو العراق بعد عامٍ واحدٍ من قمة بيروت. وفيما بين العامين 2002 و 2007 ما بقي أحدٌ في المنطقة والعالَم، صَغُر أم كبُر، إلاّ وتدخَّل في فلسطين وقضيتها، وفي أقطار المشرق العربي، وفي الخليج.

وبين العامين 2005 و2008، شهدت المملكة العربية السعوديةُ عدة قمم لمجلس التعاون الخليجي، وللجامعة العربيـة، وللمؤتمر الإسـلامي. وطاف الملك عبد الله بن عبد العزيز دول العالَم الكبرى، والمؤسسات الدولية، والفاتيكان، متحدثاً عن خطورة ما يحصُلُ تُجاه العرب، وتُجاه الإسلام، وتُجاه العدالة والسلام. وبذل جهوداً جبارةً للتوفيق بين الفلسطينيين، والتوفيق بين العراقيين، ولإقناع النظام السوري بتغيير سياساته تُجاه جيرانه، ولإقناع قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعلاقاتٍ متوازنةٍ وودودةٍ وغير تدخُّليّة. وما كانت هناك ردود أفعالٍ ولا أفعال ملائمة لمقاصد الملك ومقاصد العرب. وكان عُذْرُ سائر الأطراف أنّ الداء الهائلَ الذي نشر السموم في المنطقة هو الداء الأميركي، وأنه لا بد من انتظار نهاية عهد بوش غير الميمون!

والواقعُ أنه إذا كانت للإيرانيين أعذارُهُم في الإفادة مما أوقعه الأميركيون بالعَرب؛ فإنه لا عُذْر من أيّ نوعٍ يمكن التماسُهُ للنظام في سورية، وللانقساميين في فلسطين، وللمتطيّرين في بعض بلدان الخليج. ولا عُذْر بالطبع لمصر في التردد أوالحَرَد أو الإعراض. إذ ليس صحيحاً أن التدخلية السورية تحمي النظام هناك، وليس صحيحاً أنّ الانكفاء المصريَّ يقي دولة العرب الكبرى شرور الضعف والانقسام. وبقدر ما أضرَّت مصر بانكفائها بطبيعتها ومزاجها ودورها ومصالحها، أضرت بنا كثيراً بالمشرق العربي، لأنها تركتنا عُرضةً للغارات الإسرائيلية، والحبّ الزائد للأشقاء في سورية!

ما انتهت المشكلات إذن بالنهوض السعودي/ المصري بأعباء الوضع العربي. إذ هما تتصديان لأوضاعٍ استمرت لحوالي العقدين، وتفاقمت في السنوات الأخيرة. فأمامنا وفي الوقت نفسه خمس مهامّ عسيرة وشاقّة: متابعة المبادرة السعودية لتوحيد الصفّ العربي، ومتابعة المبادرة المصرية لمعالجة الوضع الفلسطيني، واستئلاف إسلاميينا، ودفع دول الجوار لاحترام استقلالنا وسيادتنا وهويتنا، وإقناع الأميركيين والروس والأوروبيين بالحضور العربي والاستعداد العربي لشراكةٍ مقتدرةٍ في تسويةٍ ملائمةٍ في فلسطين.

يقال إنه لولا ما حدث في غزّة لما سارع الأميركيون والأوروبيون إلى القدوم. ولا ندري لمن نَنْسِبُ هذا «الفضل»: أللإسرائيليين الذين أرعبوا العالَم بالمجازر؟ أم للمقاومين الذين «أرعبوا» العالَم بصيحات النصر؟ على أي حال، لقد حضروا هذه المرة (وإن بعد تأخُّرٍ كبير)، فوجدوا مَنْ يتحدثون إليه: وجدوا مصر، ووجدوا السعودية. وسيتوافدُ العربُ الآخَرون وقد شارفت أوهامُ الاستقطاب على الزوال. وإذا كان الأتراكُ قد حضروا هذه المرة بشكلٍ ما كان متوقَّعاً، فأنا أُراهِنُ على أنّ الإيرانيين سيحضرون - إذا جرَّبوا تضامُننا كما جَرَّبوا انقسامَنا- وبشكلٍ مختلفٍ عن الشكل الذي حضروا فيه خلال الأعوام الماضية: « والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».