الانتخابات في العراق

TT

يشكل يوم غد نقطة تحول أخرى في نمو الديمقراطية العراقية، حيث يتوجه 14 مليون مواطن عراقي إلى صناديق الاقتراع لاختيار أعضاء مجالسهم المحلية في جميع أنحاء البلاد. لقد باتت الانتخابات حدثاً راسخاً في التقويم السياسي العراقي. لكن اليوم الأمر مختلف: فالعملية الانتخابية هذه المرة تجري بقيادة عراقية بالكامل: حيث إن التشريع عراقي، والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق دأبت على العمل بكل جد طوال حوالي 18 شهراً للإعداد للإجراءات والآليات اللازمة لضمان انتخابات حرة وعادلة، وقوات الأمن العراقية هي التي أعدّت خطة أمنية شاملة لجميع أنحاء العراق لتطبيقها وقت الانتخابات. لقد زرعت الديمقراطية جذورها في العراق، وباتت تزدهر. وصناديق الاقتراع باتت تحل محل البندقية كسبيل لتسوية الاختلاف في العراق.

يتضح هذا التقدم من خلال قرار الجماعات التي لم تشارك بالانتخابات السابقة - بسبب العنف أو الترهيب أو عدم قبول العملية السياسية - طرحها الآن معاييرها لأجل المستقبل أمام الناخبين العراقيين. كما أن الجماعات التي كانت متمردة فيما سبق تبدي الآن قبولها للنظام السياسي الجديد من خلال تزكية مرشحيها للانتخابات. هنالك بالإجمالي 14400 مرشح، يمثلون حوالي 420 كياناً سياسياً، يتنافسون على 440 مقعداً. وسوف يتمكن الناخبون من اختيار ناخبين فرديين، وليس فقط تجمعات سياسية، وتقديراً للأدوار التي تلعبها الأقليات والنساء في العراق، فإن قانون الانتخاب يحدد حصة لكليهما.

وفي البصرة، حيث كانت القوات البريطانية متمركزة منذ عام 2003، يتنافس ما يفوق 1.200 مرشح على 35 مقعداً. وبدل أن تكون البصرة مدينة يسودها الترهيب وعنف الميليشيات، فإنها اليوم مدينة يسودها زخم الانتخابات. ففي شوارع وتقاطعات المدينة تنتشر مجموعة واسعة ومختلفة من الملصقات الإعلانية للمرشحين معلقة عبر الطرقات وتغطي أعمدة الإنارة وأي مساحات متوافرة على الجدران. ويمكنك أن تشاهد، في أي زاوية طريق، إعلانات لخمسة أو ستة أحزاب مختلفة. ويقوم المرشحون المحليون بحملاتهم الانتخابية من الصباح وحتى المساء مدعومين بزيارات من كبار أعضاء أحزابهم، تماما كما يجري بالانتخابات في المملكة المتحدة. وتولد الانتخابات الكثير من الاهتمام والحماس والتفاؤل في البصرة، وتشير التوقعات إلى مشاركة 70% من الناخبين في التصويت، وهو ما يعكس أهمية القضايا التي يتداولها العراقيون. وبينما يبدو النظام السياسي مستقراً بشكل متزايد، بل حتى راسخاً، فإن المواطنين العراقيين مهتمون الآن بمعرفة أي من المرشحين سيتمكن من تنفيذ تنمية الازدهار والخدمات العامة الحيوية. ومن لم ينفذوا ما نادوا به حتى الآن يمكن أن يتوقعوا نتيجة قاسية، بينما من يفوزون بالانتخابات سوف يحاسَبون بموجب معايير رفيعة: إنها الديمقراطية باختصار.

تجري هذه الانتخابات في وقت حل فيه تغيير جذري في علاقات المملكة المتحدة مع العراق. فكما أعلن رئيس الوزراء في 18 ديسمبر (كانون الأول)، من المخطط أن تنسحب قواتنا العسكرية من البصرة خلال الشهور المقبلة، وسوف يتحول تركيزنا من العمليات العسكرية إلى نهج يشمل العراق ككل. وبينما أن انسحابنا العسكري يعكس تحسناً هائلا بالوضع الأمني في العراق وكذلك تطور القدرات التي تتمتع بها قوات الأمن العراقية، فإنه بعيد كل البعد عن كونه تخلٍّ عن العراق: إنه يمثل تغييراً بطبيعة التزاماتنا، وليس نهايتها. إن علاقة المملكة المتحدة مستقبلا مع العراق هي علاقة شراكة تنطوي على أبعاد جديدة، بما فيها على سبيل المثال المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية والتعاون التعليمي. إنها علاقة تعاون وصداقة تدخل مرحلة جديدة وسوف تستمر إلى سنوات طويلة.

يجب ألا ننسى حجم المهمة الماثلة أمام العراق. فالبلد الذي كان يوماً ينعم بالازدهار تدهور للحضيض إبان حكم صدام، وخاض حربين ضد جيرانه أدتا لاستنزافه، وانتشرت به الصراعات الداخلية إلى جانب قمع جميع طوائف المجتمع، وتركت ثلاثة عقود من الإهمال العراق بحالة من الخراب ببنيته التحتية التالفة ومجتمع واجه الترهيب. وأعمال العنف التي ارتكبها الإرهابيون والميليشيات بعد عام 2003 أدت إلى تخريب العراق بشكل أكبر وزيادة المعاناة التي يعايشها العراقيون. لكن العراق وقواته الأمنية، وبدعم من قوات التحالف، استطاع مواجهة التحديات المتمثلة بالإرهابيين والمجرمين الذين حاولوا أن يحيدوا بمسار العراق نحو تحقيق الاستقرار والأمن. ورغم أن هذه العملية مازالت هشة، فإن مستويات العنف والإجرام قد انخفضت بدرجة كبيرة مع نبذ الشعب العراقي لآيديولوجية الإرهاب التي تعتنقها «القاعدة» والأجندة الطائفية للميليشيات، وبنائه لمستقبل جديد يستند على الاستقرار والازدهار والقيم الديمقراطية.

إنني على يقين بأن العراق الذي ينعم بالقوة والاستقرار، ويعيش بسلام مع جيرانه ويحتل مكانته الشرعية في المجتمع الدولي، يحتل أهمية كبيرة جداً بالنسبة للمصالح الاستراتيجية والوطنية للكثير من الدول، وخصوصاً دول الشرق الأوسط. لقد دعمت الحكومة البريطانية الحكومة العراقية وشعبها في تخطيهم للتحديات التي واجهتهم منذ عام 2003، وسوف نستمر بدعم شعب وحكومة العراق بينما يواجهون تحديات جديدة ومع تحول العراق من دكتاتورية إلى ديمقراطية مستقرة ومزدهرة.

إن المستقبل رهن أيدي العراقيين بينما يخرجون للإدلاء بأصواتهم غداً 31 يناير (كانون الثاني).

* وزير الدولة البريطاني

للشؤون الخارجية

خاص بـ «الشرق الأوسط»