الحرب

TT

تقول في مذكراتها إنها كانت في السادسة من العمر عندما سمعت صوت انفجار هائل في سماء أثينا، والتفتت إلى فوق فرأت مئات الطائرات الألمانية تغطي الجو، فسألت والدها عما يحدث، فأجاب بكلمة واحدة وصوت مرتجف: «إنها الحرب». كان الأب يعمل في دار للسينما، وقد أعطاه صاحبها شقة صغيرة من غرفتين، يسكنها هو وزوجته وطفلتاه، أوجينا ونانا.

أخذت الحرب تدمر كل شيء. أُغلقت السينما فطرد صاحبها العائلة التي انتقلت إلى غرفة واحدة في حي للفقراء. وأخذت الأم تبيع كل ما تملك: الطاولة ثم خاتمها ثم الخزانة ثم ما بقي من الملابس. وصارت تبحث عن أي عمل ممكن في البيوت. لكن ذلك لم يكن يكفي لإطعام العائلة فضربها الجوع. وكان الأب مبتلياً بالقمار فكان أحياناً يسرق القروش القليلة.

كان هناك خم للدجاج وكانت العائلة تعيش كل يوم على البيض. ثم جاء ذات يوم جنود ألمان، جائعون هم أيضاً، واستولوا على الدجاجات، وأخذت أثينا نفسها تفرغ وتتحول إلى مدينة أشباح. وامتلأت الأرصفة بجثث «المفقودين» الذين يستجوبهم الألمان ثم يرمونهم في الشوارع. ولم يبقَ شيء لم تدمره الحرب. ومُنعت أوجينا ونانا من الذهاب إلى المدرسة خوف الاغتصاب. ولم يعد في صحف المدينة شيء سوى أخبار الوفيات.

العام 1945 انتهت الحرب. ودخلت نانا موسكوري المدرسة. ومعها أيضاً المعهد الموسيقي. وظل الفقر وجنون القمار يضرب العائلة. لكن صاحب دار السينما أعادها إلى الشقة الصغيرة الملصقة بها. واستعادت العائلة خم الدجاج ورفاً من الحمام، بعدما كان الرف السابق قد هاجر إلى بيت يعثر فيه على طعام، أي فتات.

في مذكرات نانا موسكوري، مغنية اليونان الأولى، نقرأ مذكرات الشعب اليوناني. كيف حارب الاحتلال. وكيف صمد. وعندما كبرت نانا موسكوري وصارت الأشهر بين أشهر ثلاث يونانيات: ماريا كلاس (أوبرا) وميلينا ميركوري (ممثلة) انخرطن جميعاً في العمل الوطني والإنساني. ميركوري أصبحت وزيرة للثقافة بعد سقوط حكم الجنرالات، وموسكوري سفيرة للأونيسكو، وأما ماريا كالاس فقد توفيت مبكرة عندما تخلى عنها أرسطو أوناسيس للزواج من جاكلين كينيدي.

القراءة في مذكرات موسكوري مؤلمة وجارحة ومحزنة. وأصررت على إكمالها بمشقة. فعندما كنت أذهب لأسمعها، في بيروت أو في أثينا، كنت أعتقد أنها ولدت على المسرح. وها أنا أكتشف أنها ولدت إلى جانب مسرح قديم، في شقاء لا يشبه إلا المآسي الإغريقية الكبرى، ولا يستطيع أحد وصفه سوى الإغريق. أو الإغريقيات.