الذي هوى

TT

كان جمال عبد الناصر يشعر في داخله أن «ضمانات» مصر هي تاريخها ونهضتها و40 مليون مصري وجيشها وأم كلثوم. لماذا أم كلثوم وليس عبد الوهاب أو عبد الحليم حافظ؟ لأن أم كلثوم لم تكن حنجرة وحيدة فقط، بل كانت خصوصا احتراما وهيبة وسمعة. وكانت منديلا يغني. وكانت تزحزح المسرح وترمي الناس عن مقاعدها وتظل واقفة في هيبتها وهالتها.

رفضت فيروز أن تغني لأحد من الشخصيات. وإذا استعادها الجمهور المصفق عادت مرة واحدة بفستانها الطويل حتى ما بعد أرض المسرح. وغنت السيدتان طويلا وكثيرا للعشق وللهوى الغلاب. وغنتا لليل الذي لا يطلع فجره. وأنشدت أم كلثوم أرق وأعمق بيت من قصيدة الحب عندما رددت مع جورج جرداق: هذه ليلتي وحلم حياتي بين ماضٍ من الزمان وآت.

لكنهما غنتا أيضا للوطن. لمصر وللشام وللبتراء. وعلمت فيروز الناس في زهرة المدائن أن النضال ليس ضجيجا عالي الصوت بل نداء وادع لا يموت ويهز الوجدان.

غير الرحابنة طقوس العشق الوطني وهوى الأمم. ألغوا الطبول الفارغة ورموا المارشات العسكرية وتركوا الكمان وحده ينادي مع صوت فيروز: يا قدس! وكم كان لائقا أن تغني السيدتان المحترمتان للحب الوطني. وأرفض أن أتخيل للحظة واحدة مغنية خالعة تغني لفلسطين أو حتى للنيل. وأتطلع حولي في هذا الزمن فلا أرى سوى مطربة تتدحرج على الأرض مثل بطيخة مقشرة. وأبحث عن الصوت وعن الصدى وعن اللحن فلا أرى سوى فساتين مقتضبة وخلاعة كثيرة. ولا فيروز في الأفق من هنا حتى صحراء منغوليا.

في أحد أفلام سعيد صالح تدخل زوجته عليه غرفة النوم فتجده مع امرأة أخرى، فيسارع إلى التوضيح: أرجوك يا وليّة! ما تفهمينيش غلط!

وأرجو ألا يسيء أحد فهمي، فأولا لا أريد من أي مغنية أن تكون فيروز أو أم كلثوم، ولا أريد من نادي العراة أن يتحول إلى جمعية الدفاع عن غزة.

كل ما في الأمر أنني أدوّن واقعا ملموسا (بلا قافية) وأنا من جيل عندما كنت شابا أذهب إلى الكباريهات، كنت ألاحظ أن المغنية تأتي إلى المكان ومعها والدتها، أو شقيقتها. ولم يكن في إمكان الأم أو الشقيقة أن تحرس الصوت أو الصورة. لكن حتى الكباريهات كان لها آدابها. ويا خليليّ تيّمتني وحيد!