الضمير العالمي: طغيان (السياسي) على (الإنساني) في محرقة غزة

TT

عام 2005 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يقضي بإعلان يوم 27 يناير (كانون الثاني) (يوما عالميا دوريا أو سنويا) تحيّا فيه ذكرى الهلوكوست أو المحرقة التي تعرض لها اليهود على يد الحكم النازي قبل ستين عاما أي قبل تاريخ صدور هذا القرار الأعمى.. ومما جاء في نصوص هذا القرار:

أ- ((تحث الأمم المتحدة الدول الأعضاء على وضع برامج تثقيفية لترسيخ الدروس من محرقة اليهود في أذهان الأجيال المقبلة، واتخاذ إجراءات لتعبئة المجتمع المدني من أجل إحياء ذكرى هذه المحرقة)).

ب- ((تؤكد الجمعية العامة على رفض أي إنكار كلي أو جزئي لوقوع المحرقة كحدث تاريخي)).

وليس ينبغي الاعتراض على هذا القرار (من حيث المبدأ)، ذلك أن إدانة (إبادة البشر) - تحت أي عنوان، وبأي ذريعة كانت - .. هذه الإدانة (مسلّمة بديهية مطردة وبلا استثناء) في منهج الإسلام. فنحن أصول هذا المنهج: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس يوم القيامة))، كما نص على ذلك هذا الحديث النبوي الشريف، فكيف بمن يسحقهم ويحرقهم ويمحقهم ويبيدهم؟!

وكلمة الناس - في الحديث - تنتظم كل أحد من بني آدم - دون استثناء ولا انتقاء -: مهما كان عرقه ودينه. فالناس أجمعون محفوظة كرامتهم، مصون وجودهم، معصومة دماؤهم.. ومن شاء التوسع في هذا الشأن، فليطلع على مزيد من حقائق المنهج. ويمكنه أن يعرف ذلك من القرآن من خلال نموذجين - على سبيل المثال -:

1- النموذج الأول: حاكم طاغية مستبد ودموي، عمد إلى قوم مؤمنين نصارى فأحرقهم في (الأخاديد) وأبادهم بفجور وتوحش. فكيف كان موقف القرآن تجاه هذه (المحرقة). لقد أدان القرآن هذه المحرقة وجرّمها تجريما: ((قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد. إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)).

2- النموذج الثاني: موقف القرآن الصريح الحاسم من (إبادة بني إسرائيل) على يد فراعين طغاة دمويين.. نقرأ في القرآن:

أ- ((إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين)).

ب- ((وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون)).. إن هذا تجريم قاطع مفصل لما تعرض له اليهود أو بنو إسرائيل من اضطهاد وتعذيب وإبادة على يد الفراعين الطغاة.. واستنادا إلى ثوابت المنهج وحقائقه هذه: لا ينبغي الاعتراض من حيث المبدأ على أي (قرار إنساني): يحفظ كرامة الناس - جميع الناس -، ويصون وجودهم، ويعصم دماءهم. بيد أنه يتوجب الاعتراض على ما يتناقض مع (إنسانية جوهر القرار)، ومع شموله واطراده .. يجب الاعتراض على (الاستثناء والانتقاء)، يجب الاعتراض على (النزعة العنصرية) التي تضغط القرار وتكيّفه لخدمة قوم معينين - من دون الناس - وهم اليهود. فالقرار أو فقرات منه نزعت منزع (تقديس السامية)، بمعنى أن يكون لليهود (مقياس خاص) في النظرة والتقويم والتعامل والتعاطف يتفوقون به - بموجب قرار الأمم المتحدة ذاك - على أبناء يافث وحام ((!!!!!)).. ولو كنا (عنصريين) لرحبنا بهذا المنزع من حيث أننا (ساميون): أخلص وأنقى من سامية اليهود. هذا إذا صح أن هناك جنسا ساميا خالصا 100% .. ثم يجب الاعتراض على ما ينبني على ذلك من (تقديس) لمظالم الصهيونية ومحارقها. فإدانة إبادة الجنس البشري ينبغي أن تكون (عامة) .. لماذا؟ .. لأن الله خالق الناس يقول: ((أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)).. لماذا أيضا؟ .. لأن كل نفس إنسانية تحمل (مضمون النوع الإنساني وقيمته). فإبادتها تعني - من ثم - إبادة للنوع الإنساني كله.

إن السياسي لا يجوز أن يطغى على (الإنساني) في الموقف تجاه الصراع الفلسطيني العربي الإسرائيلي.. والواقع يقول: إن هذا الطغيان قد حصل ولا يزال يحصل، فبينما يمتلك المجتمع الدولي حماسة ضد (المحرقة) التي أوقدها النازيون لليهود، فإن هذه الحماسة تتحول إلى برود - مثل الثلج - تجاه المحارق التي يوقدها غلاة الصهيونية للفلسطينيين (ملاحظة لمن لا يعلم: إن الفلسطينيين بشر ينتمون إلى البشرية بحكم الجينات العامة ومواهب النطق والتفكير إلخ)

وللتدليل على هذا البرود الثلجي في ضمير المجتمع الدولي: نضرب الأمثال التالية:

أولا: ما وقع في (جنين) الفلسطينية إنما هو (حرب إبادة) ضد جنس بشري هم الفلسطينيون.. وهذه شهادة نطق بها أحرار العالم. فقد زار جنين وفد يمثل (البرلمان العالمي للكتاب والمفكرين)، وسجل هذه الشهادة: ((كل ما اعتقدناه من قبل أصبح شيئا تافها جدا بالنسبة إلى حجم المأساة الواقعية في جنين، ولذا يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم أن ما يحدث هو جريمة ضد البشرية يجب أن تتوقف. لا توجد أفران غاز هنا، ولكن الإبادة لا تتم فقط في أفران الغاز، ولا يشترط أن تكون الإبادة في أفران الغاز فقط. هناك أشياء فعلها الجانب الإسرائيلي في جنين تحمل نفس أعمال النازي)).

ثانيا: المثل الثاني الراهن الحي (الذي لا تزال روائح الجثث المحروقة تفوح من ركامه وأنقاضه) .. هذا المثل هو ما فعلته إسرائيل بغزة وأهلها فـ (التكييف القانوني) لهذا الفعل هو (محرقة شاملة) ضد كل شيء في غزة: محرقة تماثل (جيتو وارسو) في الحرب العالمية الثانية.. وهذا التوصيف للجريمة الإسرائيلية ليس من عندنا، بل هو توصيف للمحقق الأممي (في الأمم المتحدة): ريتشارد فولك (وهو يهودي). فقد قال منذ يومين: ((إن هناك أدلة على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب خلال هجومها على غزة. وهذه الجرائم تماثل (جيتو وارسو) في أثناء الحرب العالمية الثانية حين تعرض اليهود لتعذيب وقتل منظمين على أيدي النازيين)).

قلنا: إن الأمم المتحدة اتخذت قرارا عام 2005 يقضي بـ (تثبيت الذاكرة العالمية وتنشيطها) لكي تتذكر - دوما - المحرقة اليهودية على يد النازي تذكرة تؤدي إلى الاستفادة من دروسها.. ومما لا ريب فيه: أن في مقدمة الدروس المستفادة: انعقاد إجماع عالمي على عدم تكرار مثل تلك المحرقة، وإجماع عالمي نشط وجاد على تجريم كل من يحاول ذلك.. وها هي إسرائيل تكرر المحرقة، وكأنها (تقتدي بعدوها هتلر في ذلك).. ثم ها هو المجتمع الدولي يسكت عن محارق إسرائيل (ونقصد بالمجتمع الدولي: المنابر والقرارات الرسمية أما الشعوب - في الغالب - فقد أدانت المحرقة): بما في ذلك شعوب غير مسلمة.

من أجل (المساواة الإنسانية الحقة)، يلزم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي كله: تجريم (محرقة غزة) بوضوح وحزم، وإلا فإن هذين الكيانين الكبيرين يتقمصان شخصية هتلر في (العنصرية)، و(يقننان) سلوك النازيين المجرمين.

كيف؟

لأن صدور قرار أممي يدين محرقة النازيين ضد اليهود ثم يصمت المصدر نفسه عن إدانة جريمة مماثلة في غزة.. هذا التناقض دليل على (عنصرية عرقية) في الأمم المتحدة نفسها، وهي بهذا السلوك المعيب تخوّن ميثاقها الذي ينص على (المساواة) التامة بين البشر في الحقوق والواجبات والنوع.

ثم.. ما قيمة (شعار حقوق الإنسان) - في الغرب وغيره - إذا كان الإنسان يذبح يحرق بهذه الطريقة الهمجية من دون موقف حازم من رافعي شعار حقوق الإنسان.. مثلا: كيف يقتنع الناس بأن الـ BBC البريطانية تدعو لحقوق الإنسان، وهي تحجب إعلانا يدعو لإغاثة (الإنسان في غزة)؟!!