مأزق «بي بي سي» بعدم بث نداء غزة

TT

أوقعت إدارة «بي بي سي» نفسها في مأزق برفضها بث فيديو أعدته مجموعة هيئات إغاثة دولية لمساعدة منكوبي حرب حماس وإسرائيل في غزة.

انقسم الرأي العام، ووزراء الحكومة، بين منتقد للبي بي سي، وبين مؤيد، يرفض التدخل في شؤون هيئة مستقلة بضمان تمويلها المباشر من الشعب بميزانية خمسة مليارات دولار (يدفع كل بيت رخصة تعادل 250 دولارا سنويا للهيئة مباشرة).

أثير التساؤل: هل كل منظمات الإغاثة الـ 13 المشتركة في إنتاج فيديو النداء، محايدة؟ وهل دوافعها سياسية وبالتالي ليست «جمعية خيرية»؟

مفهوم العمل الخيري (المعفى من الضرائب) يعود للعصر الفيكتوري، بتكوين جمعيات لمساعدة الجوعى، والمشردين والمقعدين، وكل العاملين فيها متطوعون لا يتلقون مليما واحدا، ولا تتورط في العمل السياسي.

المنظمات الحديثة تقع خارج التعريف لأنها دولية يديرها محترفون يتلقون الأجر؛ وربما يبتكر احد اللغويين تعريفا جديدا للعمل الخيري.

إدارة البي بي سي بررت رفض البث بعدم تأكدها من الجهة التي ستتلقى الإغاثة، إذ تخشى وصول التبرعات لمقاتلي حماس، مما يعطي انطباعا «بانحياز» البي بي سي لطرف واحد في الصراع المعقد.

المشكلة أن ممول الهيئة - أي الشعب البريطاني - بدأ يشعر باحتقار إدارتها له، مثلما انعكس في خطابات القراء للصحف، وبرامج البي بي سي نفسها.

من البديهي أن مهام ومسؤوليات الإعلام الممول من المال العام، تختلف عن مهام الإعلام التجاري؛ حيث تحتل مهام تثقيف المتفرج والمستمع وتقديم أخبار محايدة غير منحازة مرتبة ثانوية. الإعلام التجاري يهتم بالترفيه لجذب مزيد من المتفرجين من الإعلان أو من راعي برامج أو نقل المباريات الرياضية.

مهمة البي بي سي إنتاج فقرات إخبارية ليس بقدرة ميزانية الإعلام التجاري تغطيها؛ وينطبق الأمر على تصوير مسرحيات ودراما راقية ونقل كونسيرفيتوارات موسيقية وأوبرا لا يقدر غالبية الشعب على مشاهدتها، حيث يفوق ثمن تذكرة مسرح أو أوبرا دخلهم الأسبوعي.

أثناء صراع غزة أرسلت الهيئة سبع فرق بالكاميرات للتغطية من إسرائيل وغزة ورفح المصرية ونقل بالقمر الصناعي لمراسلين من القاهرة وبيروت وعمان ونيويورك ودمشق، مقر الزعيم السياسي لحماس، وطهران مصدر التمويل والسلاح لها، وبروكسل وباريس، بتكلفة ملايين الدولارات، أخرجت المؤسسات التجارية من المنافسة.

التمتع بهذه الإمكانيات يحمل مسؤوليات أولها الحيادية (وهي غير التوازن؛ فشغل وقت البث بمؤيد لحماس وآخر إسرائيلي يتبادلان الاتهامات لا يفيد المتفرج، بينما إنتاج برنامج محايد عن قضايا كأنفاق التهريب مثلا عبر الحدود وتاريخها ومن المستفيد منها سيوفر للمشاهد معلومات كانت حكرا على الخبراء والمختصين، يستغرق وقتا وجهدا ومالا بينما «التوازن» بين خصمين اقل جهدا وتكلفة).

تغطية البي بي سي كانت شاملة تضمنت صورا تحرك المشاعر، فلماذا لم تذيل الهيئة نشرة الأخبار برقم تليفون جمعية خيرية لجمع التبرعات لغزة وتجنب نفسها هذا المأزق؟

رفض بث فيدو نداء لم يحرره صحفيوها قرار صائب مهنيا لكن تبريرات البي بي سي خاطئة؛ فالفيديو يعرض خسائر القصف الإسرائيلي، خارج سياق الأحداث بإغفاله دور حماس في إطلاق صواريخ على إسرائيل من مدينة مأهولة؛ فعرضه إذن يخرق الحيادية.

لكن تبرير الهيئة بمسألة التبرعات يتجاوز مهامها إلى إطار السياسة الخارجية وهي مسؤولية الدبلوماسيين وليس الإعلام.

توريط البي بي سي نفسها في السياسة الخارجية، يعود لوقوعها تحت سيطرة اليسار بأيدولوجيته المناهضة لأمريكا ومبادئ السوق الحرة خارجيا، ومناهضتهم لكل ما هو محافظ وتقليدي وملكي من إرث الإمبراطورية البريطانية في السياسة الداخلية.

جماعات اليسار البريطاني ومنابره ( البي بي سي، الغارديان، الاندبندنت، ديلي ميرور، القناة الرابعة، مجلتا نيو استاتسمان، وبروسبكتس) تزايد عداؤها لإسرائيل، ليس حبا في حماس أو فلسطين، بل يعتبر إسرائيل امتدادا للسياسة الخارجية الأمريكية. ومثل القاعدة الفلكلورية Founding Myth معاداة «الشيطان الأكبر» لإيران الخومينية، فإن اليسار البريطاني يرسم خريطة عالم قاعدتها الفكرية معاداة أمريكا والعولمة، والتبشير بـ«البيئة» كديانة جديدة يتعرض من يخالفها للتكفير. تقارير البي بي سي والاندبندنت عن البيئة تدين الديموقراطيات الصناعية الغربية ولا تنتقد الصين التي يفوق تلويثها كل بلدان أوروبا مجتمعة.

اليسار البريطاني لا يزال أسير الماركسية التي رفضتها الشعوب التي جربتها لعقود طويلة، وهيمنته على الإعلام المؤثر أدت إلى «طفشان» رئيس الوزراء السابق توني بلير بعد أن ضاق ذرعا بهجوم اليسار عليه لسبع سنوات لتقاربه مع أمريكا.

المفارقة أن اليسار انزلق إلى الخندق الذي تقف فيه جماعات فاشية وإرهابية وشمولية تحرم الفرد حرية الاختيار كـ«القاعدة» والإخوان المسلمين وأشباههم، لمجرد أنهم أعداء لأمريكا. ولذا فانتخاب باراك اوباما يضع اليسار البريطاني في مأزق فلسفي تاريخي (وهذا موضوع آخر).

ولإبعاد الشبهة، تعلقت البي بي سي «بقشة» عدم بث نداء التبرع.

انحازت البي بي سي إلى دعم انضمام بريطانيا إلى فيدرالية أوروبية (كمنافس لأمريكا) رغم أن ثلثي الشعب يرفض الاتحاد الأوروبي (بدليل تراجع حكومة العمال عن وعدها بطرح المعاهدة الأوروبية لاستفتاء عام لإدراكها رفض الغالبية).

تقاريرها عن ظاهرة الانحباس الحراري نادرا ما منحت فرصة للرأي المخالف لرأي الجماعات الخضراء. كما ضبطت بي بي سي متلبسة عدة مرات بالانتقائية في تغطيتها للعراق مما شوه صورة انجازات العراقيين الديموقراطية بعد سقوط الطاغية.

تقارير بي بي سي عن النظام الملكي والعائلة المالكة لم تكن متوازنة أو محايدة (فاليسار جمهوري الميول)، وانحازت ضد مجلس اللوردات رغم انه الصمام الواقي من قرارات مجلس العموم الحزبية المصلحة بهدف جذب الصوت الانتخابي دون الانتباه لمصلحة الأمة على المدى الطويل.

وعلى مدى ثلاثة عقود استهدفت تقاريرها تقويض الإرث الحضاري للإمبراطورية البريطانية والتقاليد التي جعلتها أم الديموقراطيات، وشجعت تيار تقويض دعائم الأسرة بتقارير «ايجابية» عن تحرير المرأة من قيود الزوجية بدعمها يسار الحركة النسوية دافعا بالزوجات للتمرد على دورهن التقليدي وشطب تعبير house wife «ربة أسرة» من قاموس الإعلام مع تغيب أصوات غالبية النساء المتمسكات بالتقاليد الأسرية. وسخرت برامجها من العقلاء الذين أشاروا إلى أن مئات الآلاف من اسر تتكون من مطلقات «محررات» بلا زوج أو أب يعتبر قدوة للأولاد، من أهم أسباب ازدياد الجرائم.

اكتشاف البي بي سي «للحياد» جاء متأخرا ثلاثة عقود، وعلى حساب هيئات «خيرية» ولذا فإدارة الهيئة يجب ألا تلوم إلا نفسها عند فقدان ثقة الشعب بها.