في غزة «مؤتة».. ولكن ليس فيها «خالد»!

TT

تقول إسرائيل إنها انتصرت في حربها الأخيرة على قطاع غزة.. وتقول حماس إنها انتصرت أيضًا في ذات الحرب.. بينما يقول الشعب الفلسطيني المكلوم، الذي يبدو أنه قد دفع وحده فاتورة هذه الحرب المجنونة «حسبنا الله ونعم الوكيل».

ببساطة وعفوية المواطن الفلسطيني الصادق والمجرب، رد شيخ فلسطيني كبير على أحد المراسلين «المنتصرين» حين سأله عما يقوله عن «الانتصار» المبين الذي تحقق لطرفي الحرب في غزة المدمرة «يا بني، انتصار آخر كهذا الانتصار ولن يبقى في قطاع غزة حجر على حجر».

بعض وسائل الإعلام التي لا همّ لها سوى إذكاء الفتن بين الفلسطينيين تتحاشى عرض هذه الأصوات العفوية الصادقة، وبعض المتحدثين والقادة، الذين لا يرون في أشلاء الغزيين الممزقة وبيوتهم المدمرة أكثر من جسر يعبرونه نحو زعامة زائفة مشيدة بجماجم أطفال غزة، يضربون صفحًا عن هذه الفلسفة الشعبية العفوية في تقييم الأشياء والحكم على المواقف والنتائج، رغم أن هذه الفلسفة البسيطة هي ذاتها التي انطلق منها حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني عقب الحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006، حين قال معترفًا إنه لو كان يعلم أن نتائج الحرب ستكون بهذا الشكل، وبمثل هذه الفظاعة ما أمر بأسر الجنديين الإسرائيليين الذين تسبب أسرهما في تلك الحرب التي ألحقت بلبنان دمارًا هائلاً، وراح ضحيتها الآلاف من اللبنانيين بين قتيل وجريح، وهو حديث صريح يحمل فيما يحمل كثيراً من الاعتذار لضحايا الحرب، وربما ندماً على فعل ما كان يجب ألا يفعل، خصوصًا إذا لم يكن ذلك الفعل معتمداً على حسابات الربح والخسارة، وحسن توظيف الإمكانيات والظروف المتوفرة والمتاحة، والتحديد الدقيق لمسارات الحركة، سواءً كانت سياسية أو عسكرية، وما قد يطرأ عليها من تحولات قد تقود إلى تحقيق نتائج عكسية.

في العصر الإسلامي الأول، ومن زمن النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التحديد، واجه المسلمون جملةً من الأزمات والتحديات التي كانت تتطلب إدارة واعية ومواجهة حكيمة، تستند إلى إستراتيجية شمولية يتحقق فيها التكامل بين مختلف الأدوات، وتتوفر فيها الكفاءة والفعالية في استقراء المستقبل وحساب النتائج، بعيداً عن المنهج «الشعاراتي» الذي يدغدغ عواطف الناس ويتلاعب بمشاعرهم لصالح من لا يرون في الشعوب سوى «مصفقين ومهللين» للقادة الملهمين، دون أن يستند إلى رصيد واقعي يتعامل مع الحقائق كما هي بالفعل، ثم يلقى بالأمة والمجتمع والشعب وقضاياه الوطنية في أتون أزمة مهلكة، تقضي على ما قد يكون تحقق من إنجازات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، دفعت الأمة في تحقيقها تضحيات جسامًا.

غزوة مؤتة التي وقعت في العام الثامن للهجرة النبوية هي خير شاهد على حسن الإدارة وعظمة القيادة، كما أنها قدمت لكل القيادات السياسية والعسكرية منهجاً خالداً في إدارة الأزمة باعتبار أن أهم أهدافها تقليل الخسائر قبل النظر إلى جني المكاسب، استناداً كذلك إلى القاعدة الأصولية الإسلامية التي تنص على أن «دفع المفاسد أولى من جلب المصالح».

لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم حينها بإعداد جيش من ثلاثة آلاف مقاتل من الصحابة، رداً على قتل والي البلقاء، الواقعة تحت الحماية الرومانية آنذاك، للحارث بن عمير الأزدي رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى، وأمّر على الجيش زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال‏‏ «‏إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة»‏، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم وقاتلوهم، وعند مدينة مؤتة دارت رحى الحرب بين جيش المسلمين الذي لم يكن يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، وجيش الروم الذي زاد على مائتي ألف مدججين بالسلاح، واستشهد زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، واختار المسلمون خالد بن الوليد قائدًا لهم. وبتقديره للموقف أدرك خالد بن الوليد أن من الانتحار الاستمرار في معركة غير متكافئة، فقرر أن ينسحب بأقل الخسائر وينقذ الجيش من الهلاك المحتوم، منطلقًا في ذلك من قاعدة أن دفع المفاسد أولى من جلب المصالح، ومعتمدًا في خطته لتحقيق ذلك على الحرب النفسية، حيث أمر عددًا من الفرسان بإثارة الغبار خلف الجيش، وتبديل الرايات بحيث جعل المقدمة مؤخرة والميسرة ميمنة، لكي يظن الروم أن مددًا كبيرًا وصل المسلمين من المدينة، ثم أمر خالد بانسحاب الجيش بطريقة منظمة، وعاد به إلى المدينة المنورة.

ولما وصل خالد إلى المدينة، أخذ بعض عوام المسلمين يعاتبونه ويتهمونه ومن معه بالجبن والفرار من المعركة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يبتسم لهم ويقول: «بل هو الكرار إن شاء الله»، بما يعني أن تقليل الخسائر وحماية الأمة، هي النصر الحقيقي عندما يتعذر تحقيق النصر الحاسم في مواجهة العدو، فهل يعي قادة «الفضائيات» ومحترفو حروب «الشعارات» حجم ما ألحقوه بنا من دمار لأنهم لم يفهموا دروس «مؤتة»، ولأنه ليس فيهم «خالد»؟!

* وزير الشؤون الاجتماعية والزراعة الفلسطيني