وما غلبوهم ولكن شُبِّه لهم

TT

لا أدري لماذا كل هذا الضجيج حول هزائمنا أمام إسرائيل، والبحث عن أسباب هذه الهزائم في كل مرة نخرج من معركة مع العدو الغاشم، فنحن لم نهزم يوما واحدا، بل كانت كل معاركنا من نصر إلى نصر، ومن لا يعترف بهذه الانتصارات فليقرأ تاريخنا المعاصر جيدا.

في عام 1948، سبعة جيوش عربية لم تستطع طرد المهاجرين اليهود من فلسطين، أو «شذاذ الآفاق» كما كانت تسميتهم آنذاك، وكانت المجابهة مع ثلة من «العصابات الصهيونية» التي نجحت في إقامة «دويلة» لها، ولكننا لم نهزم كما قد يتخيل البعض، ولكنها كانت «نكبة» طارئة بسبب الأسلحة الفاسدة، التي تحدث عنها الصحافي إحسان عبد القدوس، بالإضافة إلى «خيانة» الملك عبد الله بن الحسين، و«تعاون» جون غلوب باشا البريطاني، أو «أبو حنيك» كما كانت تسميه البادية الأردنية، قائد الجيش الأردني مع العصابات الصهيونية، هذا ما قيل لنا. لقد كانت بريطانيا العظمى هي من يقف وراء هذه النكبة، ولكنها لا تلبث أن تزول بعد أن تتغير أنظمة الحكم الفاسدة.

وتغير النظام السياسي في مصر وجاءت وجوه جديدة إلى الحكم، وجوه وطنية شابة ومتحمسة، فأخذت تغير في كل شيء: الجيش، والملكية، والعلاقات الاجتماعية، وكان شعارها «ارفع رأسك يا أخي». رحل الاستعمار وتأممت قناة السويس، فكان رد الاستعمار هو العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) على مصر عام 1956، واحتلت إسرائيل، عفوا «دويلة العصابات»، شبه جزيرة سيناء، واحتلت القوات البريطانية والفرنسية مدن القناة، وكانت المقاومة الشعبية المصرية هي الرد. أما نظام الحكم الجديد فكان مهددا بالسقوط لولا الإنذار الأميركي في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور، فانسحبت قوات «دويلة» إسرائيل من سيناء، وغادرت القوات البريطانية والفرنسية الأراضي المصرية، وانتصر جمال عبد الناصر سياسيا فأصبح معبود الجماهير العربية، وتغلغلت دعوته القومية العربية في أفئدة أبناء العرب، فالتقط النظام الجديد أنفاسه وأخذ يعمل على بناء الدولة والمجتمع بما يكفل هزيمة دويلة إسرائيل في أي مجابهة قادمة، وأصبح شعار المرحلة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، حتى لو كان الثمن هو خفض تلك الرؤوس التي قيل لها «ارفع رأسك يا أخي»، بل إن الأمر لم يقتصر على مصر وحدها، فقد حاول عبد الناصر أن يغيّر جميع الأنظمة الحاكمة «الرجعية» في الوطن العربي الكبير، ومقارعة الاستعمار في إفريقيا وعالم العرب، فكانت مساندته لثورة الجزائر وإرسال الجيش المصري لمساندة الثورة اليمنية ضد «المؤامرات».

وجاء عام 1967 وأصبحت مصر أقوى دولة في المنطقة كلها، فلديها الآن جيش حديث جرار، وصواريخ القاهر والظافر، وسلاح طيران لا يقارَن إلا بسلاح الطيران في أية دولة كبرى، وبنَت السد العالي رغم أنف الاستعمار، «وادينا بنينا السد العالي»، وصنعت البلد وكهربة الريف، وأشياء أخرى كثيرة، ولكن كان كل ذلك على حساب كرامة الإنسان، وهي الآن على استعداد لمجابهة أي عدو، وليس كما كان الحال أيام الملك فاروق، حيث كان الفساد ينخر جسد الدولة.

وخلال الفترة من 1952 إلى 1967 تحررت بلاد عربية كثيرة من نير «الرجعية»، وأصبحت من الدول «التقدمية». وكان يوم 5 يونيو يوما حاسما في تاريخ العرب المعاصر، فبعد الاستفزاز الناجح لإسرائيل، من خلال إغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، ها هي إسرائيل تهجم على مصر، ولا بد أن مصر ستنتصر على دويلة العصابات، خاصة وأن سورية والأردن مشاركتان في الحرب، فكنا أيامها نمني النفس أن نقضي بقية الصيف في تل أبيب وعلى سواحل حيفا. وبعدها بثلاثة أيام فقط، يوم 9 يونيو تحديدا، نعرف أن سيناء والضفة الغربية لنهر الأردن وهضبة الجولان قد احتُلّت، ويظهر عبد الناصر ليعترف بالهزيمة ويتنازل عن الحكم، ولكنه يعود بقوة الجماهير، فتفشل كل مخططات إسرائيل في إسقاطه، بالإضافة إلى فشلها في إسقاط نظام دمشق «التقدمي»، فنكتشف أننا انتصرنا من حيث لا ندري، إذ إن هدف إسرائيل من الحرب كان إسقاط الأنظمة التقدمية في المنطقة، كما قيل لنا، وطالما لم تحقق الهدف فنحن المنتصرون. وكانت لاءات الخرطوم (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف) هي الإعلان الرسمي للنصر العربي.

حمدا لله، فقد نجت الأنظمة التقدمية العربية، وها هي تستعد لمعركة جديدة مع إسرائيل، بعد أن عملت على التخلص من السلبيات، وجاء يوم السادس من أكتوبر 1973 يوم العبور. لقد كان يوما رائعا، حين صدحت الإذاعات العربية ببيانات النصر وتحطيم القوات المصرية لخط بارليف، وتحرير مدينة القنطرة في شرق مصر، والقنيطرة في سورية. ولكن لماذا لا يتقدم السادات لمضايق تيران - حسب نصيحة سعد الدين الشاذلي - وإحكام الخناق على إسرائيل؟ «ويا فرحة ما تمت»، حسب قول إخوتنا في مصر، فلم يلبث شارون أن أحكم الخناق على الجيش الثالث المصري، وباتت الطريق إلى القاهرة مفتوحة أمامه، وكان وقف إطلاق النار ومباحثات الكيلو 101 إنقاذا لسمعة العبور ونصر أكتوبر.

ومرة أخرى انتصرنا، ولكن هذه المرة بمساعدة «رجعية» من الملك فيصل، الذي ساند بالمال والسلاح وقطع إمدادات النفط عن الغرب. واكتشفنا بعد حين أن حرب أكتوبر كلها لم تكن إلا لتحريك الوضع السياسي الساكن، وحالة اللاحرب واللاسلم التي كانت سائدة، ولم تكن حرب تحرير كما اعتقدنا، فحقدنا على السادات حينها، ولكن تبين في النهاية أننا منتصرون، كيف؟ لقد عبرنا وحطمنا خط بارليف، وهذا في حد ذاته نصر ما بعده نصر، فقد فاجأنا إسرائيل (لم تعد دويلة العصابات الآن) لأول مرة في تاريخنا، وهذا إنجاز في حد ذاته.

وجاء عام 1982 واحتُلت بيروت.. لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تُحتل عاصمة عربية من قبل عصابات إسرائيل، وليست أي عاصمة، بل عاصمة الثقافة العربية والتنوير العربي. كانت المقاومة الوطنية اللبنانية، متحالفة مع المقاومة الفلسطينية للاحتلال، عنيفة ومجيدة، وكيف لا وبيروت عاصمة العرب محتلة؟

خرجت إسرائيل أخيرا من بيروت، ولكن بعد أن رحلت فصائل «المقاومة» الفلسطينية إلى تونس، وكان ذلك نصرا لنا لو تعلمون عظيما، فلأول مرة نستطيع إخراج إسرائيل من أرض تحتلها، رغم بقائها في الجنوب اللبناني.

وجاء عام 2000، وانسحبت إسرائيل من الجنوب اللبناني فهللنا واستبشرنا خيرا، فالمقاومة اللبنانية، ممثلة في حزب الله، استطاعت أن تدحر العدوان، ولكن ماذا فعل حزب الله بذاك النصر؟ استغله لتحقيق مآرب داخلية، وفرض نفسه على الجميع باسم المقاومة. فكان عام 2006، قام حزب الله بخطف جنديين إسرائيليين بهدف الاستفزاز، وفق حسابات تقوم على أساس أن الإنسان لا قيمة له في بقية الثقافات، كما هو الحال في الثقافة التي يحملها حزب الله ومن سار على نهجه، فكان شهرا انفتحت فيه بوابات جهنم على لبنان واللبنانيين، قُتل فيه الإنسان، ودُك فيه الحجر والشجر، وكان جحيم دانتي حاضرا في الصورة. وانتهى الأمر بتبادل جثث إسرائيليين بأسرى من حزب الله، وكنا من المنتصرين، كيف؟ بكل بساطة لأن هدف إسرائيل كان سحق حزب الله، وطالما الهدف لم يتحقق فنحن لا شك من المنتصرين. أما حجم الدمار في الإنسان وما ملك الإنسان فلا يهم، طالما الصمود هو سيد الموقف.

ثم جاء عام 2008 وكانت غزة. كان الهدف، كما كان عام 2006، مجرد استفزاز «لدويلة» العصابات، وكانت النتيجة 1300 من القتلى، وآلافا من الجرحى، ومليارين من خسائر مادية لا قيمة لها عندما يكون الإنسان هو الضحية، ورغم ذلك انتصرنا. يقول مشعل وهنية وغيرهما إننا انتصرنا لأن هدف إسرائيل هو سحق «المقاومة» ممثلة في حماس، وطالما الأمر لم يتم فلا شك أننا انتصرنا، ولا عزاء لطفلة فقدت أبويها، أو شيخ سوف يقضي بقية أيامه في العراء جائعا، أو امرأة تولول على جثث أطفالها، أو شاب كان يرجو مستقبلا تحول إلى وهم وخواء. أهذه قيمة الإنسان في ديارنا؟ إسرائيل تفاوض على مستقبل شاليط، وتبادل جثثا بأسرى، ونحن ننتشي بدماء الأطفال في غزة، وفي تاريخنا كله كانت الدماء تعطر الأنوف منا في سبيل نصر مزعوم، ومقاومة ليس لها من النصيب إلا الاسم؟ هزلت، ثم هزلت، ثم هزلت.

انتصرنا في كل المعارك، طالما بقيت الأحزاب والحكومات والتنظيمات في مأمن، ولكن ماذا عن الإنسان؟

ثقافة الإنسان يجب أن تتغير في عقولنا، ومعايير النصر والهزيمة يجب أن تتغير في رؤوسنا، وبغير ذلك ستبقى إسرائيل، عفوا «دويلة العصابات»، بل وكل الدويلات، تهزمنا، حتى لو كان النصر حليفنا دائما، وفق ميزان أهداف هذا وذاك، والخاسر في النهاية هو إنساننا، هذا إن كان قد بقي لدينا إنسان.