ولماذا لا ينحاز أوباما إلى القانون الدولي؟

TT

أخيرا تسلم الرئيس باراك اوباما رسميا منصبه كرئيس للجمهورية. وفورا بادر إلى الاتصال الهاتفي مع بعض الرؤساء العرب. ومنهم جلالة الملك عبد الله باعتباره صاحب مبادرة السلام العربية. ومباشرة قام اوباما بإرسال جورج ميتشل كممثل شخصي له للتعامل الفوري مع الصراع العربي، وعبر بوابة الحرب الإسرائيلية على غزة، التي لا يزال دخان ضرباتها وتدميراتها يخيم على مدن القطاع بأكمله.

إنها بداية سريعة، ومكثفة، وعالية المستوى، ويمكن القول إنها إيجابية للرئيس الأميركي تجاه القضية الفلسطينية، جاءت بعد جدل طويل حول اوباما، أو حول شعاره المعلن بالتغيير، على مستوى أميركا وعلى مستوى العالم. فهل هناك تغيير فعلا في سياسة الرئيس الأميركي الجديد؟

من المؤكد أن هناك تغييرا، فالقوة لم تعد هي الخطوة الأولى للتعامل مع قضايا العالم. حلت محلها الدبلوماسية مرة ومرات، والمشاورات السياسية ستكون الأساس مع الحلفاء بدلا من توجيه الأوامر، وستدخل المشاورات حتى إلى حيز التشاور مع الخصوم، كما هو الحال مع ايران. وهذه مجرد عناوين لقضايا كبيرة أخرى ستدخل إليها رياح التغيير الذي يريده اوباما، وهو تغيير سيبلور سياسة أميركية جديدة، تلغي سياسة المحافظين الجدد الذين ملأوا العالم حروبا وتدميرا ورعبا، ثم أزيحوا عن السلطة ملعونين. والكل سيرحب بهذه السياسة الأميركية الجديدة، ولكن الكل سيطلب أيضا تفهما وإنصافا، وسيقول للمفاوض الأميركي الجديد، لا يكفي أن ننزع الشر، إنما يجب أن نزرع الخير مكانه أيضا. ينطبق ذلك على علاقات مع دول من مستوى روسيا. وينطبق على علاقات مع دول من نوع ايران، وهو ينطبق بالتحديد، وفي ما يخصنا بكيفية التعامل مع الموضوع الفلسطيني.

عند الاقتراب من هذه القضية الشائكة ذات الستين عاما من محاولات الحل الفاشلة حربا وسلما، نبدأ بتسجيل ما هو مشجع. وهو كما يلي،

أولا: أن هناك مبادرة عربية للسلام معروضة على طاولة المفاوضات بدءا من عام 2002. وبدأت إسرائيل مؤخرا تتقرب منها على لسان رئيسها شمعون بيريس، حتى أنه ذهب إلى اوباما قبل أن يصبح رئيسا رسميا شارحا له ميزاتها كـ«أساس» للحل.

ثانيا: لقيت هذه المبادرة تفهما من الرئيس الأميركي نفسه، وقال بحقها كلاما مشجعا.

ثالثا: إن المندوب جورج ميتشل الذي أرسله اوباما لدراسة الوضع، ثم للتعامل معه، حسب هذه الطروحات، لديه تجربة سابقة طويلة مع الصراع العربي ــ الإسرائيلي. فهو صاحب (تقرير لجنة ميتشل) في 30/4/2001، يوم اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد التي أشرف عليها الرئيس السابق بيل كلينتون. وهو صاحب التقرير، الذي شهد اندفاع رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون إلى حربه ضد الضفة الغربية، معلنا رسميا إعادة احتلالها، ومرتكبا فيها مجازر من نوع مجزرة جنين (على غرار مجزرة غزة الأشمل)، وقد كان الهدف من تقريره آنذاك أن يعالج الوضع المتفجر، وأن يفرض على الطرفين منطق الهدوء من جديد، وأن يدفع بهما مجددا إلى طاولة المفاوضات، فهو إذا صاحب خبرة في موضوعه هذا. وهو الآن سيكرر تجربة صعبة عاشها من قبل. فهل سينجح فيها الآن؟

لن ندخل كثيرا في التفاصيل التقليدية للحوار، مع أن التفاصيل التقليدية لهذا الحوار معروفة وكثيرة، والكثير الكثير منها ورد في تقرير لجنة ميتشل الذي بنيت عليه ورقة جورج تينيت رئيس الـc.i.a، وخطة خارطة الطريق، ووعد بوش لشارون.... الخ، ومن أبرز هذه العناوين (وضع حد للعنف،إعادة بناء الثقة، وقف التحريض، تجميد الاستيطان، إلغاء إغلاق المدن، دفع الضرائب المستحقة للفلسطينيين، السماح للعمال الفلسطينيين بالعمل، منع عنف المستوطنين)، وأشياء كثيرة أخرى تشبه إلى حد كبير ما يجري الآن من حصار وتجويع وتضييق وعنف ضد غزة وحولها.

ما يجب التركيز عليه حسب ما نرى الآن هو الأساسيات، والأساسيات تبدأ كما يعلم الجميع من حقوق الإنسان، من القانون الدولي، من قرارات مجلس الأمن، وأخيرا.. من خطة السلام العربية.

وقد تم تجريب العناوين التقليدية مرات ومرات من دون نجاح، بل وبفشل مدو. وربما آن الأوان الآن، وفي ظل جدية اوباما التي نلحظها، وفي إطار اهتمامه الكثيف بالتغيير، أن يقود الجميع إلى الاعتماد على العناوين الأساسية التي يقر بها الجميع، ولكن الجميع يرفضون اعتمادها كأساس فعلي للحوار.

وباعتبارنا أصحاب المشكلة، وباعتبارنا أصحاب مبادرة تلقى ترحيبا ولو مبدئيا من الرئيس الأميركي، نقول له جادين وناصحين، إن الانطلاق في التفاوض من المبادرة العربية، يحقق قاعدة الانطلاق في التفاوض من المبادرة العربية، يحقق قاعدة الاعتماد على القانون الدولي، وينهي خطأ فادحا باستمرار تجاهل رؤساء أميركا لهذه القاعدة التي يسهمون هم أكثر من غيرهم في صياغتها، ثم يتنكرون لها عند التنفيذ، كما حدث مثلا في مفاوضات كامب ديفيد 2000. ولا يكون هناك من بديل بعد ذلك سوى قانون البقاء للأقوى، وفرض رأي الأقوى، وهو الفرض الذي خرب كل محاولات التسوية السابقة.

يقول القانون الدولي إنه لا يجوز احتلال أراضي الغير بالقوة. وتدعو مبادرة السلام العربية إلى الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود عام 1967، وهو تطبيق حرفي للقانون الدولي.

يقول القانون الدولي إنه من الممنوع كليا تهجير السكان من الأراضي التي يتم احتلالها، أو إحداث تغيير في البنية الديمغرافية للسكان (الاستيطان). وتنص مبادرة السلام العربية على ضرورة إنهاء الاستيطان (كل الاستيطان) الذي تم في أراضي الضفة الغربية أثناء سنوات الاحتلال. يقول القانون الدولي إن مدينة القدس. هي جزء من الضفة الغربية التي تم احتلالها عام 1967، وإنهاء الاحتلال يعني أيضا إنهاء احتلال مدينة القدس والانسحاب الإسرائيلي الكامل منها، وهو ما تنص عليه مبادرة السلام العربية انسجاما مع القانون الدولي.

يقول القانون الدولي إن الاحتلال يمنع استيلاء المحتل على المصادر الطبيعية للبلد الذي احتله (الأرض الزراعية ــ المياه ــ الأجواء ــ المياه الإقليمية)، وتنص روح مبادرة السلام العربية على ذلك بوضوح، انسجاما مع القانون الدولي. وينص القانون الدولي على حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهو ما دعت إليه المبادرة العربية بوضوح تطبيقا للقرار رقم 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ولا يوجد في القانون الدولي قانون يعطي الحق للمحتل بأن يفرض على المحتلين احتجاز أراض يريدها واستبدالها بأراض يود التنازل عنها. (تبادل الأراضي)، لا قرب القدس ولا حولها ولا بعدها ولا قبلها. ولذلك فإن هذا البند يجب أن يلغى من بنود التفاوض، بعد أن تسلل إليها في مفاوضات اوسلو وفي مفاوضات كامب ديفيد، لأنه مخالف كليا للقانون الدولي، ولأنه بسبب ذلك لم يرد له ذكر في مبادرة السلام العربية.

تبدو هذه البنود صعبة القبول من الزاوية الإسرائيلية، وسيقال بأنها ترفضها، ولكن هل كانت صيغ التفاوض الأخرى، الصيغ التوافقية، الصيغ العملية، بنودا سهلة، بحيث تم التوصل إلى اتفاق حولها طوال 17 عاما من التفاوض؟ إن أمام الرئيس اوباما، الطامح فعلا إلى التغيير، فرصة فريدة للتعاطي بصيغة جديدة مع القضية الفلسطينية، هي صيغة القانون الدولي. فقد جرب كل من سبقه اعتماد صيغة (التوافق)، أو صيغة (ما يصل إليه الطرفان.. أي ما يفرضه الطرف الأقوى)، وكان أن اتفقوا عمليا على صيغة فرض ما تريده إسرائيل.. وفشلوا. وهو يستطيع أن يجرب صيغة القانون الدولي.. فينجح. لأن الاعتماد على صيغة القانون الدولي قوة قائمة بحد ذاتها. فهل يفعل الرئيس اوباما، أم أن مندوبه جورج ميتشل سيغرق من جديد في أتون شعارات وقف أعمال العنف، وإجراءات إعادة بناء الثقة، وغير ذلك من الإجراءات التي جربت عشرات المرات، ثم تكسرت فوق رؤوس أصحابها؟