الطويل والقصير

TT

أخيرا، وبين صفحات مجلة علمية، اكتشفت السر الذي يجعل المرأة تعاني من الأوجاع، ثم تسرف في الشكوى. فالمرأة تصنع آلامها بنفسها، وإلا لما ارتدت ملايين النساء الكعب العالي لكي يزددن طولا. فالكعب العالي أوجع ظهور النساء والفتيات منذ مئات السنين، وما زال الوجع مستمرا. وكنت إذا اشتد علي الإحساس بالظلم وأنا ارتدي حذاء كعبه عال، خاصة إذا سرت محملة بأكياس المشتريات، عبَّرت عن سخطي بالشكوى من أن المرأة هي المكلفة بشراء طلبات المنزل. كان ظهري يؤلمني، وقدماي تنتحبان، والأوعية الدموية تتمدد؛ فأسخط على مخترع الكعب العالي، وأتخيله رجلا عريض المنكبين مفتول الشاربين.

ثم قرأت معلومة علمية تقول بأن المرأة ترتدي الكعوب العالية لكي تبدو أكثر طولا، لأن المجتمع يكافئ الطويلات بوظائف أفضل ورواتب أعلى. وبناء على أبحاث في دنيا الأطفال، قال الباحث إن التمييز يبدأ في الطفولة، وإن الطفلة الطويلة تشعر بثقة أكبر؛ فتسعى إلى تنمية قدراتها وذكائها. وردتني تلك المعلومات إلى الوراء حين كانت ابنتي طفلة لا تنفك تضع علامات بالقلم على جدران غرفتها كل شهر، ثم تعود في الشهر التالي لتضع علامة جديدة، تم تهتف بأن طول قامتها ازداد سنتيمترين كاملين. وكم نظرت إليها وتعاطفت سرا، لأنني لم أكن يوما من طويلات القامة، وافترضت ـ مع المفترضين ـ أن العالم يعتبر أن القامة الممشوقة تحمل معها دماغا ذريا.

ودارت الأيام، وتقدمت في العمر، ولم تزدد هامتي ارتفاعا، غير أنني اتخذت قرارا بالاستغناء عن الكعب العالي تماما، إيثارا للراحة والسلامة. ومن حسن الحظ أن حياتي لم تتأثر سلبا، ولا ظروفي المعيشية والاجتماعية تأثرت بعد اتخاذ القرار.. فلا راتبي انخفض، ولا تبدلت نظرة الناس إليَّ، خصوصا أهلي وأقاربي وأصدقائي وزملائي. ورغم أنني أعتبر نفسي من القصيرات، لم ألتق بأخرى فارعة الطول أشعرتني بأنها أوفر حظا أو أكثر ذكاء.

والجدير بالذكر أن الأسطورة التي تقول إن الذكاء المفرط في الطول الوفير تستمر إلى درجة تجعل الآباء والأمهات من ذوي الطموح يسارعون إلى عيادات الأطباء، أملا في إضافة بضعة سنتيمترات إلى أطوال الأبناء، حتى لو كان الولد سليما، ولا يعاني من قصور في النمو. هؤلاء لا ينتبهون إلى الآثار الضارة لتعاطي الهرمون الصناعي، أو إلى أن الهرمون الصناعي قد يزيد القامة طولا، ولكنه لا يزيد المخ ذكاء.

من أطرف الأمور أن قامة الإنسان تزداد طولا وهو في أطوار النمو، إلى أن يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما، ثم تنكمش تدريجيا كلما تقدم به العمر. وهذه النقطة بالتحديد مازالت تشعِر ابنتي بالتفوق عليَّ، حيث إنها تفوقني طولا بعدة سنتيمترات، وكثيرا ما تعبر عن محبتها لي بقبلة وضمة تصاحبهما عبارة: أمي ما أصغرك. وما تعنيه في الواقع هو: ما أقصرك. غير أنني أتقبل النقد بقلب سليم، فأقول لها: «إن كل الأشياء الثمينة تأتي في عبوات صغيرة». وأكتفي بذلك القدر من الدفاع، لأنني أفضل راحة البال وراحة الظهر والقدمين على الانضمام إلى طوابير النساء اللاتي يصنعن الألم والوجع، طمعا في رضا الآخرين.

حين استشارتني صديقة شابة في أمر خطبتها لشاب لا يعيبه شيء من حيث الأخلاق والتعليم والطباع والنَّسب والوسامة، ولكنه لا يعتبر طويلا؛ قلت لها: «ليس كل طويل نبيلا».