«دافوس والغبراء»!

TT

مشهد خروج رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا، غاضبا من مشادة مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، على مسرح واحدة من ندوات منتدى دافوس السنوي المسمى باسم تلك المدينة السويسرية الباردة، والتي لا يسمح جوها المتجمد بالمعارك الساخنة، ومن ثم مشهد استقبال الآلاف من نشطاء حزب أردوغان الإسلاميين لزعيمهم في مطار اسطنبول على أنه بطل إسلامي «جاب الديب من ديله»، المشهدان يوحيان للإنسان العادي، وكأن إسرائيل وتركيا ستدخلان في حرب غدا أو بعد غد على أبعد تقدير، حرب طويلة مديدة يكون وقودها البشر والحجر مثل حرب البسوس أو داحس والغبراء، حرب تستخدم فيها تركيا وحزبها الإسلامي كل الأسلحة التي لديها. لكن المفاجأة كانت عندما علمنا أن الرجلين قد تصالحا، وأن إسرائيل ستسلم تركيا طائرات عسكرية من دون طيار، وبمزيد من التفاصيل المدهشة التي أوردتها وسائل الإعلام أن أردوغان تقبل مكالمة من بيريز، وقال له بأنه لم يكن غاضبا منه أو من إسرائيل، وإنما كان غاضبا من مدير الندوة الذي «لم يتصرف معه بأدب ولم يعطه حقه في التعبير»، فلم يعطه الوقت الكافي للرد، وأكد أن هذه الزوبعة لن تؤثر على العلاقات الاستراتيجية بين تركيا وإسرائيل.

وعلى الرغم من تلك المفاجأة، فإن أردوغان تلقى التهاني من قادة الفصائل الفلسطينية، وتظاهر أهل غزة وهم يهتفون لرجب، على أمل أن «يحوش» رجب صاحبه بيريز عنهم، على حد أغنية هيفاء وهبي في رائعتها الشهيرة «رجب حوش صاحبك عني»، التي استخدمها الصديق حسين شبكشي عنوانا لواحدة من مقالاته.

إذن الحرب بين رجب وبيريز لن تكون حرب «داحس والغبراء» وإنما حرب تلفزيونية يبدو أنها مرتبة سلفا، بدليل تجمع كل هؤلاء المتظاهرين الإسلاميين في ظرف ساعتين، وهي المسافة التي تقطعها الطائرة تقريبا من دافوس أو زيورخ إلى مطار اسطنبول، تجمع هؤلاء بكل هذه السرعة للقاء زعيمهم الغاضب. المواجهة بين رجب وبيريز لم تكن مواجهة حقيقية، إنها مواجهة معدة تلفزيونيا، لأن في مصلحة إسرائيل أن تصدر إلى المنطقة العربية زعيما آخر، غير عربي بالطبع، يدغدغ المشاعر الإسلامية ويتاجر بعذابات البشر لكسب شعبيتهم، من أجل المنافسة مع إيران على زعامة العالم الإسلامي. إننا اليوم أمام نموذج جديد من الحروب، لا هي حرب الثلاثين عاما الأوروبية، ولا هي حرب البسوس ولا حرب داحس والغبراء، وإنما حروب وهمية متلفزة، على غرار حرب رجب وبيريز، التي يمكن أن نطلق عليها حرب «دافوس والغبراء».

من أتيح له تنظيم مؤتمر في السابق، أو من قرأ عن تنظيم المؤتمرات الدولية، يدرك أن فريق العمل الخاص برئيس الوزراء أو أي وزير، مسؤول مسؤولية تامة عن تنظيم وقت مداخلته ونهايتها مع الجهة المضيفة. أعرف هذا جيدا بحكم عملي في معهد الدراسات الاستراتيجية، حيث نقوم بتنظيم أربع مؤتمرات عالمية يتحدث فيها رؤساء دول، ورؤساء وزراء، ووزراء، المهم في القضية هو أن فريق العمل الخاص بكل مسؤول يعرف من سيكون معه على المنصة، وله حق القبول أو الرفض قبل المؤتمر، ويعرف كم دقيقة سيتحدث هو، وكم دقيقة لحوار الجمهور، وله الحق ألا يقبل بأسئلة من الجمهور إذا أراد.

فريق العمل الخاص برئيس وزراء تركيا، بكل تأكيد، كان يعلم بكل هذه التفاصيل، وكان رئيس الوزراء يعلم بها كذلك. لو كانت لدى رجب النية أن يعقب على كلمة بيريز، لطلب من المنظمين للمؤتمر أن تأتي كلمته بعد كلمة بيريز وليست قبلها، لكنه استخدم وقت كلمته وأراد كلمة إضافية، ومن حق مدير الندوة في مثل هذه الحالة أن يعطيه الكلمة أو لا يعطيه. لكن رجب فضل أن يختم الموضوع بمشهد درامي، وحاول الأتراك أن يحققوا نصرا تلفزيونيا يروق للداخل والخارج، ويقلل من قيمة العرب ويفرض رجب، كما أحمدي نجاد، زعيما جديدا على الساحة الشرق أوسطية.

* رجب وشيوخ القبائل

ترى من كان يقصد رجب عندما أعلن أمام الملأ وفي مواجهة بيريز أنه رئيس وزراء تركيا وليس شيخا لقبيلة؟ ترى من هم شيوخ القبائل الذين يتعامل معهم بيريز بعنجهية يقبلونها، ولكن رئيس وزراء تركيا لا يقبلها؟ أتذكرون كتاب «قبائل بأعلام»، ذلك الكتاب العنصري الذي ينظر إلى العرب كمجرد قبائل، وإلى قادتهم على أنهم شيوخ قبائل. هذه هي المرجعية التي استثارها أردوغان في الحاضرين: تركيا ليست قبيلة كقبائل العرب، ورئيس وزرائها ليس شيخ قبيلة عربيا، وعلى بيريز أن يحترم نفسه أمامه. هذه هي رسالة بيريز أيضا، هذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي يريدونه، يكون لكل اللاعبين الدوليين والإقليميين دور في رسمه، شريطة ألا يكون دور للعرب فيه، يتحدث بالنيابة عنهم الفرس مرة والأتراك مرة.

العلاقات التركية الإسرائيلية واضحة، أما العلاقات الفارسية الإسرائيلية، وقد أرخ لها كتاب جديد في الأسواق بعنوان «التحالف الخبيث» عن العلاقات السرية بين أميركا وإيران وإسرائيل، فكان أوضح مثال لها ما عرف بفضيحة «إيران ـ كونترا» والتي تسلمت فيها إيران أسلحة من أميركا وإسرائيل في عز وهج الثورة الإيرانية أيام الإمام الخميني نفسه. ليس من مصلحة إسرائيل أن تضعف إيران أو حتى تركيا، المهم أن يكون العرب هم الضعفاء. المهم ألا ينافس العرب بكتلتهم البشرية والجغرافية الضخمة إسرائيل على الهيمنة في المنطقة، ولا بأس إن كان المنافسون هم الأتراك أو الفرس أو حتى الهنود، فهي قادرة على التعامل مع كل هؤلاء.

* إسرائيل تمحو الجغرافيا ومشعل يمحو التاريخ

لننظر إلى ما حدث في غزة وما قبلها وما بعدها لنرى المشهد بوضوح. إسرائيل دمرت البيوت والمدارس والمستشفيات وقتلت البشر في غزة، إسرائيل مزقت أرض فلسطين بجدار عزل طويل عريض، إسرائيل غيرت ملامح المدن الفلسطينية القديمة قدم التاريخ لتمحو الوجود العربي منها، أي إسرائيل تعمل على محو الجغرافيا الفلسطينية. وها هو السيد خالد مشعل يعلن أنه بصدد إقامة منظمة جديدة تمثل المرجعية الوحيدة للشعب الفلسطيني بدلا عن منظمة التحرير. كافح العرب، دولا وشعوبا، من أجل أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وتبنى القادة العرب تلك الرؤية في مؤتمر الرباط عام 1974.

خالد مشعل اليوم يفكك التاريخ، كما فككت إسرائيل الجغرافيا. فبعد الرحلة الشاقة والطويلة لإقناع العالم بأن منظمة التحرير ليست منظمة إرهابية يقودها ياسر عرفات، وإنما هي حركة تحرر وطني تمثل الشعب الفلسطيني، هكذا وببساطة يقرر خالد مشعل أنها ليست كذلك. ومن الآن فصاعدا، وبعد اعتماد شكل آخر وهيئة أخرى لتمثيل الشعب الفلسطيني، ستدخل الدبلوماسية العربية في رحلة قد تكون مدتها ثلاثين عاما أخرى، لإقناع العالم بأن هذه الهيئة الجديدة ليست منظمة إرهابية يقودها خالد مشعل، وإنما هي حركة تحرر وطني تمثل الشعب الفلسطيني.

إسرائيل تفكك الجغرافيا للقضاء على القضية، ومشعل يفكك التاريخ لإعادة الكرة من جديد. وبين تحطيم الجغرافيا وتفكيك التاريخ تنتهي القضية الفلسطينية، وتتحول من قضية سياسية تهدف إلى بناء الدولة، إلى قضية إنسانية تبحث عن الدواء والغذاء والكساء لشعب في الشتات.

كل هذا يحدث، وبعضنا ثمل أمام الشاشات يطرب لحروب «دافوس والغبراء» الوهمية، في حين الطائرات العسكرية الإسرائيلية تسلم بأمان وصمت غير متلفز لرئيس الوزراء التركي الغاضب على الشاشات فقط.