ماذا عن حق سكان غزة بالدفاع عن أنفسهم؟

TT

كانت والدتي تقول «الذي لا توثر فيه الكلمة لا تؤثر فيه ضربة سكين». وقد أخذت هذا المثل دليلا على قوة اللغة وقدرتها الأكيدة على التأثير، ولكنني وأنا أشاهد كيف يحمّل ميشيل لوي، المفوض الأوربي للتنمية، وهو يقف وسط ركام الخراب الذي أحدثته جريمة الحرب الصهيونية الأخيرة على المدنيين في غزة، حماس، وهي القوة الدفاعية الوحيدة التي يملكها المدنيون المحاصرون في غزة «مسؤولية ساحقة في الحرب التي شهدها قطاع غزة» شعرت أن كلامه أقسى من سكين الوحشية التي ذبحت بها إسرائيل، بدم بارد وبتغطية سياسية من الديمقراطيات الغربية «المتحضرة»، الآلاف من أطفال ونساء غزة، ودمرت أرضهم ومدارسهم ومشافيهم ومساجدهم ومنازلهم، وشعرت أن القيم الأخلاقية للعالم الغربي «الديمقراطي المتحضر» آخذة في الانهيار، وأن الابتزاز السياسي الذي يبرع فيه اللوبي الصهيوني وصل أوجهُ مع شخصيات سياسية يفترض أنها تعبر عن موقع معين وإذ بها تلتزم حرفيا بالجمل التي صاغتها الدعاية الإسرائيلية وبثتها منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي عبر وسائل إعلامها وبأقلام صهيونية وأخرى متصهينة تتوزع هنا وهناك، حتى في الصحف والفضائيات العربية. وقد كان تصريحه هذا مقدمة لتصريحات أخرى جاءت ضمن حملة إسرائيلية منظمة لإبعاد الأنظار عن الجرائم الإسرائيلية وتكرار مقولات يعلم الجميع أنها افتراء ولا أساس لها من الصحة. وبهذا فإن اعتماد «الدليل اللغوي الإسرائيلي» الذي أعدته دوائر الترويج والدعاية الإسرائيلية واضح من قبل من لا يأبهون بحياة البشر ولا بضمير إنساني حر ولا بمثل إنسانية أو اجتماعية، ولا بحقوق إنسان أو حياة أطفال تزهق وتمتهن. كل هذا وسط تصريحات من حاخامات تبيح قتل أطفال غزة، ومنشورات من سياسيين إسرائيليين عنصريين حاقدين دعوا فيها إلى قتل الفلسطينيين، ومحو غزة من الخارطة، وضربها بالأسلحة النووية وليس الفوسفورية فقط.

إنهم يدعون علنا إلى إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في غزة، وهذا بالضبط ما نفذته قوات الاحتلال خلال الاثنين وعشرين يوما، من قتل همجي يومي ومتواصل للأطفال والنساء واستخدام الأسلحة الفوسفورية وقنابل الدايم المحرمة دوليا، وغيرها من الذخائر الفتاكة التي تحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة ودول أوروبية «متحضرة» وديمقراطية. وإن ذكّر هذا بشيء فهو يذكّر ببطانيات الميكروبات التي كان المستوطنون البيض يلقونها على سكان القارة الأمريكية الأصليين فيصيبونهم عمدا بالأمراض الفتاكة التي أبادتهم بالنتيجة، ولم تترك سوى عينات صغيرة من شعوب ذات حضارات عريقة. ولهذا ربما يتفهم الغربيون حرب الإبادة التي يقوم بها جنرالات الحرب العنصرية ضد الشعب الفلسطيني، أو لم يقيموا هم دولهم على إبادة الشعوب الأصلية وحضاراتها، وعلى الاستيطان وسرقة الأرض والمياه؟ فكيف لا يتفهمون اليوم إسرائيل التي تحاول أن تفعل بالضبط ما فعلوه منذ مئات السنين تحت مسميات مختلفة، وبذرائع متنوعة ومتغيرة ومتعددة؟ ولذلك تراهم جميعا يزودون إسرائيل بأسلحة الإبادة النووية والكيميائية والفوسفورية والعنقودية، فيما يحرمون المدنيين في غزة من الأسلحة الدفاعية، مستخدمين الحصار والحرمان من الغذاء والماء والكهرباء والخدمات والدواء من أجل قتل المزيد من المدنيين خاصة الأطفال والمسنين والمرضى والجرحى.

ولا يوازي صدمتنا ونحن نراقب آلة القتل الإسرائيلية تهدم المدارس والمساجد والمنازل والمشافي على رؤوس من بها وتمنع الغذاء والدواء عن المدنيين سوى امتناع من يدّعون «التحضر» عن إدانة هذه الأعمال الوحشية، لا بل تهافتهم اليوم على إلقاء اللوم على الضحايا، والمدافعين عنهم وتكاتفهم على سدّ الأبواب والمعابر والأنفاق على الضحايا، فيما الدبابات والطائرات والبوارج والمخابرات تحيط بهم ومن كل صوب، في الوقت الذي تفتح كل مخازنها لتزويد من ارتكب أبشع الجرائم بأبشع الأسلحة بحجة «حقه في الدفاع عن نفسه»!

والسؤال هو هل للشعب الفلسطيني الحق ذاته، أي حق الدفاع عن النفس وامتلاك وسائل الدفاع عن النفس في وجه أعتى آلة عسكرية حاقدة على البشر والحجر في غزة وفلسطين؟ أم أن عرب غزة كغيرهم من العرب محرومون من الحقوق كلها بما فيها حق امتلاك السلاح للدفاع عن النفس؟

أولم تكن منظمة «آي آر آيه» الأيرلندية موجودة في أيرلندة؟ أولم تقتل من البريطانيين في لندن وغيرها أكثر مما قتلت حماس من إسرائيل؟ تخيلوا لو أن بريطانيا استخدمت أسلوب الحرب الاستباقية الشاملة ضد شعب أيرلندا بذريعة ملاحقة الآي آر آيه، وهذا بالضبط ما تفعله قوى الاحتلال الإسرائيلي. إن ما قامت به إسرائيل في غزة من جرائم ضد البشرية لهو أبشع ما رآه أبناء جيلنا، بل إن الأبشع من هذه المجازر هي ردود الفعل اللامسؤولة واللاأخلاقية واللاحضارية التي بشكل أو بآخر تبرر المجازر الإسرائيلية، وتنشغل اليوم في مراقبة عدم وصول الدواء والغذاء بحجة منع وصول السلاح إلى الضحية بينما تشدّ على يد القاتل الإسرائيلي في المؤتمرات الصحفية والدولية. بل إن الأبشع من هذه المحرقة الإسرائيلية هو هذا الارتباك العربي الذي يرى أن إسرائيل قد أحكمت طوق الإبادة العسكرية والسياسية والإعلامية على شعب عربي محاصر يباد أمام العالم، ومع ذلك تفرد بعض القنوات المساحات لمجرمي الحرب الصهاينة كي يخاطبوا العرب من خلال شاشاتها ويبرروا جرائمهم ويعبروا عن أكاذيبهم. والأفظع من كل ذلك هو أن تنحاز بعض الأقلام وبعض الكتاب في العالم العربي إلى من يستهدف إخوانهم وأخواتهم، والحجة هذه المرة «صواريخ حماس» بدلا من أن ينصهر الجميع في عمل إعلامي يُري العالم مدى الهمجية الإسرائيلية قاتلة الأطفال الأبرياء. وهكذا رأينا أن دولا غير عربية أخذت موقفا إنسانيا مشرفا في الدفاع عن حق المدنيين في غزة بالحياة والحرية والخلاص من الوحشية الإسرائيلية بينما اختبأت بعض الأصوات العربية المبحوحة وراء أقاويل غير مقبولة وغير مفهومة مثل عدم مشاركتها في إعادة إعمار غزة لأنها لا تريد أن تبنى غزة كي تهدم من جديد! وشتان بين ما رأيناه من غضب الشهامة الإنسانية التي عبر عنها رئيس وزراء تركيا ورؤساء فنزويلا وإيران وبوليفيا، بينما بقي من يفترض أنهم يمثلون العرب غير آبهين بما يجري لأهلهم في غزة بل أفلتوا بعض سياسييهم وإعلامييهم ممن امتهنوا التبرير للعدو جرائمه ضد العرب فتراهم أشداء على أشقائهم رحماء مع الأعداء.

إن تسارع قوى «ديمقراطية» مختلفة لإحكام حصار يمثل أدنى مستويات الوحشية التي عرفتها البشرية ليكون أكثر ديمومة وأكثر همجية على الشعب العربي المسلم في غزة هو نتيجة شعور العدو بالفشل في تحطيم توق عرب غزة للحرية. ولكنّ ما يجري اليوم يكاد يستعصي على الفهم حيث تقف دول عظمى ودول وقوى عربية مع من يسفك دم الأطفال والنساء المدنيين العرب وينزل بهم أقسى صنوف المعاناة والعذاب. ولكنّ تفسيرا واحدا قد يريح أصحاب الضمائر الحرة الذين يتألمون نتيجة هذه المعادلة الخاطئة تماما ألا وهو أن ولادة فجر الحرية لشعب معذب يسبقها دوما ظلام الطغيان. لا شك أن المراهنين على إبادة العرب لن يتمكنوا من إبادتهم جميعا كما فعل أسلافهم مع الهنود الحمر والأبورجينز، والمراهنين على استسلام العرب لن يتمكنوا من فرض الاستسلام على الجميع، بل إن التفظيع الوحشي بأهلنا في غزة قد ولدّ لدى مئات الملايين من العرب والمسلمين شعورا أشد بالالتزام بعروبتهم وبدينهم وحقوقهم وكرامتهم. ويمكن الاطمئنان إلى أن صمود المدافعين عن حرية وكرامة العرب وحقوقهم في غزة هو بداية انبلاج فجر عربي سوف يكشف أبعاد التخاذل والعنصرية والتواطؤ الذي قاد إلى هنا وسوف يسجل التاريخ ما حدث بعيدا عن «الدليل اللغوي الإسرائيلي» واستخدامات البعض الذين يرتهنون للابتزاز لهذا الدليل. وبغضّ النظر عمّن شارك من العرب أو غيرهم في تبرير الجرائم الإسرائيلية وتحميل المقاومة المدافعة عن المدنيين بوجه أعتى آلة حرب وحشية، فإن مسيرة التاريخ الإنساني ماضية في تسجيل جرائم الطغاة وبطولات المدافعين عن حرية شعوبهم. ونحن في زمن تحول كبير سوف تسقط خلاله كلّ الاتهامات والألقاب والادعاءات الزائفة وتضيء شمس الحقيقة حنايا وعقول ونفوس البشر لتعيد الشهامة الإنسانية إلى مكانتها، وتبرز أصحاب المواقف المشرفة، وتفصلهم عن المتاجرين بالسياسة الضحلة، والمواقف المتقلبة، الذين يصافحون مجرمين ملطخة أياديهم بدماء أطفال عرب غزة.

لن يرحم التاريخ من يخدم الوحشية الإسرائيلية بموقف أو بتصريح أو بمقال يبرر جرائمها ضد عرب غزة، كما لن يرحم كل من ارتكبها من المجرمين السياسيين والعسكريين على حد سواء.

www.bouthainashaaban.com