عن المقاومة وثقافة السلام

TT

لكل حركة مقاومة ملامحها التى يحددها زمنها ومكانها بالإضافة بالطبع لملامح الأرض التى تعمل عليها وطبيعة الجبهات التي تتحالف معها. غير أن الهدف من كل أنواع المقاومة هو التحرير، تحرير الأرض ومن وما عليها. الحرية إذن هى الهدف النهائي للمقاومة. فبها، وبها وحدها، يتحقق الوجود الإنساني بما يحققه البشر من إنجازات تجعل لحياتهم معنى. لا أعتقد أننا سنختلف على طبيعة الهدف الأساسي والنهائي للمقاومة، وهو أنها تسعى لتلك المحطة التى يتحقق عندها سلام البشر، الذي يتيح لهم حياة طبيعية. وفى كل حالات المقاومة يسعى المقاوم لتحقيق هدفه بأقل قدر من الخسائر، منتظرا تلك اللحظة التى يبدو فيها أي بصيص أمل في السلام، فيعمل على الفور على تحقيقه. إذا اتفقنا على أن كل حركة مقاومة لها ظروفها الخاصة التى تحدد نوعية سلاحها المستخدم فى عملياتها، فأنا أرى ـ بغير ادعاء لاحتكار الصواب ـ أن المقاومة في الحالة الفلسطينية يجب أن يكون هدفها الأول هو الحفاظ على الشعب الفلسطيني بشرا وهوية وحياة طبيعية، لأنه بالفعل ـ على الأقل في غزة ـ مهدد بالشلل التام أو بالإعاقة بالمعنى المادي للكلمة أو بالاندثار. وسلاحها لتحقيق ذلك هو التفاوض مع العدو من أجل سلام تعاقدي لا يشعر فيه طرف بالتهديد من الطرف الآخر. هذا هو بالضبط ما عرضته المبادرة العربية، وهو ما تعمل على تحقيقه الرئاسة الشرعية فى رام الله، وهو أيضا ما لا توافق عليه حكومة حماس المقالة في غزة.

في الاحتفال بالنصر في غزة، الذي أقيم في الدوحة منذ أيام، قال الشيخ القرضاوي «أتمنى أن أذهب إلى غزة على كرسي متحرك وأن أطلق رصاصة واحدة على العدو فتنقض علي قنبلة وأموت شهيدا».

وبالرغم من أن كلماته لا تعرفها قواميس السياسة أو الحرب والسلام أو قاموس النصر المحتفى به، إلا أنها ترسم صورة واضحة لنوعية المقاومة العدمية من وجهة نظر حماس، إنسان ليس لائقا طبيا للقتال، ينتقل إلى الميدان على مقعد متحرك، يطلق رصاصة فيرد عليه العدو بقنبلة، والهدف هو الشهادة وليس تحرير الفلسطينيين. ألا تلخص كلماته بالضبط طبيعة ما حدث، صواريخ تحدث أقل قدر يمكن تصوره من الإصابات فى صفوف العدو فى مواجهة أكبر قوة نيران عرفها العصر الحديث تسقط على أناس لا حول لهم ولا قوة؟ أما السيد خالد مشعل فقد كان أكثر تفاؤلا عندما احتفل بالنصر فى غزة، فقد قال، «انتصرنا اليوم في غزة، وغدا في رام الله، وبعد غد في فلسطين كلها بإذن الله». هكذا رسم خريطة الانتصارات المقبلة في غزة وما بعدها، لك أن تتصور عدد الشهداء وعدد المصابين وعدد الذين سيفقدون حياتهم وأحباءهم في هذه الانتصارات، وكل إنجازات البشر وقد تحولت إلى أنقاض. ياللثمن المدفوع ليس في النصر ولكن في تكلفة الاحتفال به. وبهذه الكلمات أيضا يكون قد أرسل رسالة إلى العالم كله يوضح فيها أن الهدف من المقاومة الفلسطينية بقيادة جماعة حماس هو تحرير أرض فلسطين التاريخية، وهو ما يعنى أنه يقوم بترجمة تمنيات السيد أحمدى نجاد بزوال إسرائيل. هو إذن لا يوافق على حل الدولتين الذي أجمعت عليه الدول العربية ودول العالم أجمع، ويرى حتمية مواصلة القتال في الميدان البعيد عنه، الذي لن يخسر فيه هو شخصيا شيئا، وهو ما يقول فيه المثل الشعبي المصري «زغرطي ياللي مانتش غرمانة» حتى لو أبيدت غزة وأهل غزة، سيظل هو منتصرا باحثا عن عاصمة يحتفل فيها بالنصر، وهذا أمر طبيعي من زعيم ثوري يقود جماعة تعتمد المعادلات الصفرية منهجا فى التفكير، إما أن نحصل على كل شيء أو فليذهب الجميع إلى الجحيم. وفي كل الأحوال سيظل يطلق زغاريد الانتصار فيرد عليه، بزغاريد أخرى، آخرون باحثون عن دور بعد أن ضمنوا ألا يموتوا أو يفقدوا أجزاء من أجسامهم. هذا هو الجزء الواضح من المهرجان أمام الكاميرات. أما في الخلفية البعيدة فيوجد الدمار وجثث القتلى والمصابون وبكاء الثكالى والأرامل واليتامى، هو مهرجان من ذلك النوع التاريخي الذي يحتفل فيه بعض الزعماء الثوريين بإرسال شعوبهم إلى الجحيم. وإذا كان من الطبيعي أن تكون لكل جماعة مقاومة تحالفاتها القائمة بالضرورة على وحدة الهدف، إلا أني لست أرى هذه الوحدة فى تحالفات حماس مع طهران. لا أعتقد أن الهدف هو تحرير فلسطين والفلسطينيين، فمن خطب السيد نصر الله ومن الهجوم المتواصل على النظام في مصر عبر منابر عديدة مفاجئة، لا توجد صعوبة في قراءة الهدف الإيراني، الذي انجرت جماعة حماس لتنفيذه، وهو القتال ضد مصر، ما يبعدها كثيرا عن الهدف الذي تزعمه. هكذا يمكن القول، إن هؤلاء القتلى والمصابين، كل هذا الدمار، لم يكن نتيجة لعمليات المقاومة من أجل تحرير الشعب الفلسطيني، وإنما هم ضحية لرغبة حكومة السيد نجاد فى إضعاف الدولة المصرية والقضاء على دورها كقوة إقليمية معتدلة يثق فيها الغرب ويثق فى نزاهتها كوسيط.