تغيير الخرائط والأنظمة في منطقة على مفترق طرق

TT

قوانين اللعبة تغيّرت والمحظورات سقطت.. واللاعبون الإقليميون الآن «يلعبون على المكشوف»!

لا يوجد تفسير آخر لما يحدث هذه الأيام في منطقتنا.

إسرائيل، الهاربة على الدوام من الإجابات الشافية على ما تريده خارج نطاق «حلم الغلبة المتذرع بالأمن»، تواجه انتخابات تعِد بمزيد من الهروب إلى الأمام عبر انتصار آخر لليمين المتطرف. وتأتي هذه الانتخابات بعدما أسهمت العقلية السلطوية الإسرائيلية في رسم واقع إقليمي جديد في المنطقة لصالح خيار التشدد بعد حربين خاضتهما وفق «سيناريو» واحد، وانتهيا بخاتمة واحدة، في لبنان عام 2006.. وفي غزة أخيرا.

من نافل القول أن إسرائيل لا تريد أيَّ سلام كان. بل ثمة من يقول إنها لا تريد السلام بالمطلق، لأنه قد يعني على المدى البعيد التراخي والذوبان في المحيط العربي الإسلامي المتلاطم الموج. وبناء عليه، ترى أنه لا بد لها من الإبقاء على مقومات التفرد والانعزال والدفاع عنها، سواء في الداخل أو في العالم الغربي حيث السند الحضاري المتعاطف.. حتى الآن. وربما لهذا السبب بالذات، سعت إسرائيل تكرارا إلى نسف صدقيّة كل من حاورها، وشجعت فعليا على نشوء بديل له أكثر تشنجا وتطرفا منه، لأن هذا البديل - بالنسبة لغلاة الصهاينة - في أسوأ الأحوال سيمضي في طريق مسدود، وفي أفضلها سيعجل بالفوضى و«حرب الأشقاء» الأهلية، فيكفيها شر القتال بأجساد أبنائها.

«حرب لبنان 2006» استوعبتها إسرائيل جيدا بعدما قرأتها بتمعن مع تداعياتها أيضا. وهي كانت تدرك سَلفا المواقع «الكلاميّة» و«الجديّة» للاعبين الإقليميين واصطفافاتهم وحساباتهم.. وكذلك سقوف مطالبهم. ومع هذا، خاضت بعد سنتين ونيف حربا أخرى عرَضت فيها عضلاتها فدمرت وقتلت وشردت، مع أنها كانت تتوقّع مسبقا كيف ستكون الخاتمة.

وطبعا، كان ما كان، وخرج أصحاب «الانتصار» الموعود بالخلاصات السياسية التي يشتهون ولو على أشلاء الأبرياء. لا أعتقد أن معتوها إسرائيليا واحدا كان يتوقع حقا «القضاء» على «حماس» وحلفائها. بل إن امتناع القيادة الإسرائيلية عن تحديد الغاية الحقيقية من الحرب التي شنّتها على غزة كان دليلا بيّنا على أن المعركة التي تخوضها الآلة العسكرية ليست معركة عسكرية، بل سياسية بامتياز.

وكان لافتا كلام السيد حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، خلال الأسبوع المنصرم عندما ربط بين الحربين، واعتبر أن هدف إسرائيل هو «القضاء» على «المقاومة» و«حماس»، ليصل إلى النتائج السياسية. أما النتائج السياسية، كما نعرف الآن، فتقوم على: تسييج إسرائيل بـ«قوات فصل» لا تختلف كثيراً عن «الأندوف» في الجولان، و«اليونيفيل» في لبنان، و«السّياج الفاصل» في الضفة، وارتداد «المقاومة» إلى الداخل لتصفية حساباتها في فتن داخلية مع خصومها الذين تصفهم بـ«العُملاء» والمتعاونين - كما حصل في لبنان في مايو (أيار) 2008 وما يحصل في غزة حاليا - وتهيئة الجو الإقليمي لصفقة كبيرة تلعب فيها دول أوروبية و«اللّوبيات» الإسرائيلية في العواصم الغربية دور الوسيط مع واشنطن في عهدها الرئاسي الجديد.

في هذه الأثناء، غدا الهدف الاستراتيجي لإيران قاطعا وصريحا، وهو ما عاد إلى تأكيده السيد نصر الله بالأمس، ولو تلميحا، ألا وهو إسقاط النظام المصري. والسيد نصر الله الذي أثار بالأمس - في توقيت غريب - قضية الدبلوماسيين الإيرانيين المختفين في لبنان لم يكن يفتح حقا مواجهة داخلية جديدة مع خصومه في الشارع المسيحي. بل كان يؤكّد مجددا «وحدة المسار والمصير» بين الحزب وطهران، وحقيقة كون الحزب ممثلا لها في المنطقة.

وهنا يجدر التذكر أن السلطات الإيرانية نفسها آثرت عام 1998 السكوت والعض على الجرح، فلم تسمح للاستخبارات الأميركية والباكستانية باستدراجها إلى المستنقع الأفغاني، رغم إقدام حركة «طالبان» ومناصريها يومذاك على إعدام ثمانية دبلوماسيين إيرانيين في مزاري شريف.. ومن ثم مباشرتها حملة اضطهاد للهزارة الشيعة.

اليوم، في ظل العلاقة الخاصة والمتنامية بين طهران وبعض القوى الإسلامية المصرية، والتحريض المكشوف ضد النظام المصري على ألسنة قياديين في «حماس» و«حزب الله» ومقرّبين منهما، من دون إغفال دور الإعلام الحكومي السوري، ما عاد بالإمكان اعتبار المسألة.. مجرد خلاف في وجهات النظر.

فطهران تعتبر أن من حقها لعب دور إقليمي يليق بوزنها البشري والثقافي والمالي، وامتدادتها الآيديولوجية و«الثيولوجية»، لكنها تفهم أن هذا الهدف لن يتحقق في ظل واقع النظام الإقليمي الراهن. وبالتالي، يجب إسقاط هذا النظام الإقليمي وأنظمة الحكم التي يتألف منها.

من ناحية أخرى، بالرغم من الهجمة الإيرانية المستقوية على خصومها بورقة «تحرير فلسطين»، قد لا تستطيع طهران بسهولة احتكار ولاء الساحة الإسلامية المتضايقة من سلبية الاعتدال العربي، وما يَظهر للبعض من عجزه عن إقناع المجتمع الدولي بجدوى إرضائه وتعزيز صدقيته في وجه صلف التعنت الإسرائيلي وهجمة التشدد الإيراني. ومن هنا يجب قراءة الحالة التركية المستجدّة.

فتركيا التي بارحت المنطقة بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عادت خلال السنوات الأخيرة لاكتشاف جزء من هويّتها غُيِّب قسرا. وكما حصل للاعتدال العربي مع المجتمع الدولي، خذلت أوروبا المسيحية تركيا «الكمالية» لفترة طويلة رغم خدماتها «الأطلسية» في عز استعار الحرب الباردة، مما أدى إلى تعزيز مواقع الإسلاميين على أنقاض العلمانية المتهاوية. وكان أول الغيث في روزنامة التمرّد التركي رفض أنقره التعاون الميداني في موضوع غزو العراق. وها هي اليوم عبر زعيمها الإسلامي رجب طيب أردوغان تكشف لأوروبا، من قلب منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، عن نبض شارعها ومشاعره الجيّاشة.

تركيا عائدة إلى ملعب المنطقة، والمشكلة بالنسبة لملالي طهران وأتباعهم من «المستعجمين» مسلمين ومسيحيين و«عونيين».. أنها لا تؤمن بـ«ولاية الفقيه».